القسم الأول
الأطفال كائنات بيولوجية فريدة في نوعها وعلى درجة عظمى من الخصوصية والتميّز، ويُجمِع علماء نفس الطفولة والتطور البشري أن مصدر تلك الفرادة التي تميز الطفولة يعود في معظمه إلى اللدونة الدماغية الفائقة لدماغ الطفل (اللدونة الدماغية Cerebral Plasticity): مفردة تقنية تشير إلى قدرة الدماغ على تخليق اشتباكات عصبية دماغيّة جديدة؛ الأمر الذي يؤدي إلى تخليق قدرات إبداعية جديدة)، ومن الطبيعي أن تترتّب على هذه الخاصية الفريدة نتائج يمكن عدّها مزايا حصرية للأطفال دون سواهم، وأهمّ تلك المزايا هي: القدرة الفائقة والسريعة للطفل في تشكيل أنماط دماغية جديدة قادرة على التكيف مع الخبرات غير المجرّبة واستيعابها والتعامل معها بمرونة وصبر وشغف، وهذه المزية الفريدة لاتُتاح في العادة لغير الأطفال، أو قد تكون متاحة لهم ولكن بثمن باهظ يخلو من عوامل الإثارة والشغف ويغلب عليه القسر وتأدية الفروض والواجبات في سياقات بيروقراطية شديدة الوطأة. ثمة خاصية أخرى مرتبطة باللدونة الدماغية الفائقة للطفل، وأعني بها انفتاح الفضاء التخييلي لدى الطفل وعدم تقيّده بمحددات فيزيائية أو إجتماعية ضاغطة، ويمكن فهم هذه القدرة الفريدة لدى الطفل من الطواعية الدماغية لديه في خلق تشبيكات عصبية يتعذّر احصاء احتمالاتها الممكنة، وكل احتمال من تلك الإحتمالات هو بمثابة فرصة لتخليق عالم تخييلي جديد.
أورد هنا عدداً من الملاحظات الأساسية التي تلقي الضوء على بعض الموضوعات التي تشكل أهمية أكيدة في ثقافة الطفل وهو يعيش عصر الفيض الألكتروني والمستحدثات الحاسوبية والتطبيقات المتعاظمة للذكاء الاصطناعي :
- أهمية الحكايات الشفاهية للأطفال: تبقى الحكايات الشفاهية التي تتكرر على مر العصور وتغير الأجيال (سندباد، الأميرة والأقزام السبعة، حكايات الأخوين غريم، أليس في بلاد العجائب،،،،) ذات أهمية عظمى لمخيال الطفل وذائقته التصويرية وجهازه اللغوي الغض، ومن الأهمية الفائقة أن تُروى هذه الحكايات على مسامع الأطفال حتى لو كانت مطبوعة في كتب ورقية ذات ألوان براقة جذابة. يمكن للأب أو الأم أو المعلمة القيام بدور الراوي في هذه الحكايات؛ غير أن الجدة أو الأم تبقى هي الراوية الأفضل وبخاصة عند أوان نوم الأطفال. إن تجربة سرد الحكايات الشفاهية على الأطفال تجربة فريدة في جمالياتها وتأثيرها وذات دور عظيم في تحفيز خيال الطفل وإثارة مكامن شغفه بالكلمات والصور المتخيلة؛ الأمر الذي سينعكس بالضرورة على عملية إرتقائه البيولوجي ونضجه الوجداني، وينبغي على الوالدين كبح رغبة الأطفال الجامحة للقراءة الرقمية الدائمة لهذه الحكايات الممتعة على اجهزتهم الالكترونية المتعددة.
- ضرورة تجنب السرديات ذات المحمولات الارتكاسية والموغلة في نزعاتها القومية والشوفينية: يُلاحَظ في ثقافة الأطفال (وأدب الأطفال بخاصة) إعلاؤه شأن الحكايات المتوارثة التي تؤكّد السمات القومية لكل جغرافية بشرية، ويمكن عدّ هذه الظاهرة انعكاساً لنزعة تأكيد السيادة القومية وإعلاء شأن الأمة - الدولة؛ غير أن عصرنا الحالي تفاقمت معضلاته وتغولت حتى شملت الكوكب الأرضي برمّته ولم يعُد مقبولاً - أو حتى ممكناً - الانكفاء على الخصائص المميزة لكل جغرافية بشرية بعينها وتأكيد تفوقها على سواها من الأجناس البشرية؛ بل صارت الضرورة العملية تفرض ترويج أنماط عديدة من الثقافة الجماعية التشاركية التي تعمل في إطارها الواسع معظم الكائنات البشرية للحفاظ على الموروث البشري ومعالجة آثار المشاكل المهددة للجنس البشري بأجمعه.
يتبع
أطفالنا والعصر الألكتروني
[post-views]
نشر في: 3 يونيو, 2017: 09:01 م