(4-5)
اتذكر طفولتي في العمارة، مدينة تقع جنوب شرق العراق على الحدود مع إيران، وأتذكر كل ما رأته عيناي، وما سمعته من قصص رواها الأجداد، مدينة صحيح أنها تقع في جنوب العراق، إلا أن من الممكن العثور عليها في كل المدن تلك التي تؤسس صَرْحها على تنوع الملل والطوائف والأديان والأعراق سنة وشيعة، عرباً وأكراداً وتركماناً، مسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة ويزيديين، وعندما انهدَّ هذا الصرح، عندما بدأت المدينة بإلغاء تنوعها، والذي بدأ بتهجير اليهود عام 1951، حتى انهدّت المدينة على أهلها، جدي المفتش في تمور البصرة كان يقول، منذ أن غاب اليهود عن المدينة حكمت المدينة على نفسها بالدمار، وهو على حق، الحروب التي لحقت بعدها في العراق وماتزال قضت على كل ما تبقى ولو القليل من ذلك التنوع.
أية مصادفة وأنا أقف هنا في هوهينأمس أتذكر ثلاثة من أبنائها، من غير المهم ما طرأ على المدينة من تغيير، ما تزال ذكراهما عالقة في الذهن، أنهم الدكتور عبدالجبار عبدالله، عالم فيزيائي مشهور، اضطر للنفي في بداية الستينات بتهمة الشيوعية، وعمل في وكالة نازا الفضائية حتى وفاته، وله يعود الفضل في التكهن بالطقس قبل ثلاثة أيام، الثاني الدكتور داود كباي، طبيب أطفال، لكن عيادته كانت تزدحم دائماً بالمرضى من شتى الجنس والأعمار، كان الناس يجدون فيه القديس الذي يشفى كل شيء، بقي مصرّاً على العيش في العراق، لم يهاجر إلى اسرائيل، قال أنا عراقي قبل أن أكون يهودياً، رغم ذلك لم يسلم من عنصرية البعثيين، ألقوا به في زنزانات التعذيب عام 1970، الفترة التي بدأت بها السلطات البعثية بإعدام مواطنين عراقيين، 21 شخصاً، بتهمة التجسس لإسرائيل، أغلبهم يهود وشيعة، والثالث حنا الشيخ، صاحب أول شركة نقل نهري في العراق، وتزداد دهشتنا، إذا عرفنا أن الأول كان من أصل طائفة الصابئة المندائيين، إحدى أعرق الديانات القديمة في وادي الرافدين، يُقال أنها هي التي سكنت حاران عندما جاءها أبو المهاجرين، إبراهيم، طائفة عاشت عند ضفاف نهر دجلة، عملت في نقش الذهب وصناعة الأدوات الزراعية اليدوية، ووجهت انظارها ناحية النجوم، الضوء كان روح الله بالنسبة لها، أما الثاني فهو من أصل يهودي، من تلك الطائفة التي سكنت مدينة العمارة منذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر، وبنت حي التوراة، أحد أجمل أحياء المدينة ببيوته التراثية القديمة، ربما بقي من تلك البيوت إثنان أو ثلاثة، تهدم كل شيء، والثالث من أصل مسيحي، طائفة امتلكت حانات ومحلات بيع شرب الخمور ومطاعم في العمارة.
كل ذلك قبل أن يطبق فيروس العنصرية والكراهية والحب، في أزمان، اختلفت الناس عن بعضها، لكنها على الأقل تقبلت العيش إلى جانب بعضها البعض، بالتأكيد كانت المشاكل تحدث من وقت إلى آخر، لكنها لم تنته إلى طرد بعضهم البعض، وعندما شرعت بكتابة رواية "ملائكة الجنوب"، تلك الرواية التي أردتها أن تكون ملحمة ظاهرياً هي قصة حب ثلاثية، لكن في العمق تروي قرابة قرن من تاريخ العمارة والبلاد العراق، تاريخ الأقليات في العراق، وما مر عليها من محن ومصاعب وطرد والغاء، كان لابد لي المجيء على هذه الشخصيات الثلاث.
التنوع بصفته رحمة وغنى، والتماثل فقر وجدب للروح، لا يمكن مقارنة العمارة اليوم، المدينة ذات اللون الواحد تقريباً، بعد إلغاء تنوعها.
الكلمة التي ألقيت في مساء 11 آيار الماضي بمناسبة افتتاح مهرجان امسيانا الأدبي والفني الذي يُقام سنوياً في مدينة هوينأمس النمساوية
بابل في كلِّ مكان
[post-views]
نشر في: 6 يونيو, 2017: 09:01 م