1- ظهر في العقود الأخيرة اتجاه عالمي متعاظم لإحلال نوع من الأخلاقيات العملية منذ وقت مبكر في ثقافة الطفل واعتبارها أمراً أكثر جدوى من الخطابات الوعظية الدينية أو اللاهوتية التي تتوجه إلى جماعة بشرية محددة ، ويهدف هذا التوجه إلى إيجاد نوع من الأخلاقيات الجمعية لا تتحدد بمؤثرات الزمان والمكان والبيئة وتكون فاعلة في الوقت ذاته في التعامل المجدي مع المعضلات العالمية. يمكننا إيراد أمثلة كثيرة على هذه الأخلاقيات العملية الجمعية: إشاعة ثقافة الاحترام وقبول الاختلاف والمساواة الجندرية ، احترام الثقافات البدائية وعدم التعالي الشوفيني عليها ، تأكيد حق الحياة والتعليم والصحة لكل سكان الأرض، المشاركة الفاعلة في الحملات الإنسانية لدعم أطفال المناطق الموبوءة أو التي تعاني ويلات الحروب والتشدد والارهاب والهجرة الناتجة عنها، دعم المعرفة البيئية للتعامل مع المعضلات الكارثية التي تواجه كوكب الأرض .
2- نعيش اليوم وسط بيئة صارت محكومة بهيمنة الوسائط الرقمية الشائعة، ونعلم أن تلك الوسائط محكومة هي الأخرى بقيود النظم الرقمية التي تعمل وفق خوارزميات محددة، وقد أدى هذا الأمر إلى ضعف القدرات التحليلية والفلسفية لدى الأجيال الجديدة والاستعاضة عنها بنوع من القدرة الخوارزمية الأقرب إلى متطلبات التنميط الجمعي، ونتج عن ذلك تراخي النزعة الإنسانية وفقدان التواصل الحي مع الإرث الإنساني في شتى حقوله المعرفية وشيوع نوع من العبودية الرقمية التي تستغلها الحكومات لخلق نوع من دكتاتوريات رقمية ورقابية شديدة الوطأة ، وفي مواجهة ذلك لابد أن تحافظ الثقافة غير المنمّطة رقمياً على التراث الإنساني وتعمل على الإرتقاء المتواصل في المناطق الدماغية المتعلقة بالقدرات التحليلية.
3- يعرف أغلبنا أن الإرهاب الدوليّ وغياب فرص التسامح والتعايش الحقيقية يتغذّيان من حالة سوء فهم الآخر وعدم الانفتاح على ثقافته الخاصة، وقد أظهرت الأمم المتحدة ضعفاً كبيراً في إشاعة التسامح الإنساني والانفتاح الثقافي تجاه الثقافات المهمّشة بسبب بيروقراطية المنظمة وشيوع الفساد فيها ؛ ويمكن لثقافة الطفل المبكرة أن ترسخ لدى الاطفال قبول الآخر المختلف إذا اعتمدت نمطاً من الحس الإنساني الجمعي المتناغم مع تطلعات البشر جميعاً.
4- يؤدي الارتقاء بثقافة الأطفال وبخاصة في عصر انتشار الثقافة الرقمية الى ترسيخ السلام المحلي والدولي. ويمكن لثقافة توازِنُ بين الجانبين التحليلي والرقمي أن تساهم في إمداده بالإمكانات اللازمة للتعامل الناجح مع المستقبل وطرد الشعور بالضياع والعجز للتمكّن من التعامل الكفوء مع المستحدثات الرقمية، كما أن الثقافة المبكرة المتوازنة للطفل يمكن أن تبعده عن مخاطر الاعتلالات المرضية مستقبلاً (مثل مرض ألزهايمر) وتملأ حياته شغفاً وبهجة وانتاجاً حيوياً.
5- اضافة إلى ماسبق، هناك مستجدات كثيرة طرأت على ثقافة الأطفال راهناً فقد تنبّهت السياسات التعليمية العالمية (بل حتى على مستوى العائلة) إلى الضرورة الفائقة لاستثمار اللدونة الدماغية الكبيرة لدى الطفل في ميادين محددة، ومن أهم تلك الميادين التعلّم المبكر لبضع لغات عالمية؛ فلدى الأطفال قدرة غير محدودة في تعلّم واتقان اللغات الأجنبية، وهو الأمر الذي يعزز قدرات الأطفال ويمنحهم مزايا تنافسية مشروعة من جهة، كما يسهم في توسيع آفاقهم وهم يتعرفون على الثقافات العالمية الشائعة خارج فضاء الثقافة المحلية المألوفة لديهم، وسوف تسهم التعددية اللغوية لدى الأطفال إلى تعزيز ثقافة تقبل الآخر المختلف ووعي أهمية التسامح واحترام الخصوصيات القائمة على التمايز والاختلاف في إطار من التلاقح الثقافي والحضاري المتبادل.
ثقافة الأطفال والأخلاقيات العملية
[post-views]
نشر في: 10 يونيو, 2017: 09:01 م