TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عاطفة هادئة

عاطفة هادئة

نشر في: 11 يونيو, 2017: 09:01 م

كل الأفلام التي تعرضت لسِير الشعراء رأيتها تنطوي على مادة شعرية: عن  الشاعر كيتس (نجم مضيء)، كوليرج (بندايمونيوم)، بايرون (بايرون)، أليوت (توم وفيف)، ديلان توماس (حافة الحب)، سيليفيا بلاث (سيليفيا)، لوركا(رماد قليل)، نيرودا (ساعي البريد)، غينزبيرغ (عواء)، وأخيراً عن إيميلي ديكنسون (عاطفة هادئة)، وبابلو نيرودا (نيرودا) من جديد. ولذا يبدو لي حصاد المتعة بالغ الوفرة.
    ففي السينما تتمتع بفن الفوتوغراف والرسم، وبفن الموسيقى، وتستوحي المسرح والأوبرا، ولا تفتقد الأدب في الشعر والحكاية. والملفت للنظر أن شخصية الشاعر تتماهى مع شخصية الممثل بصورة تستحوذ على الذاكرة تماماً، فما أن تقرأ كتاباً عنه، أو قصيدة له، حتى يتراءى الممثل بصورة حاسمة، خاصة إذا ما كان الشاعر ينتسب لمرحلة ما قبل الفوتوغراف. ولا تعرف إذا ما كانت هذه الحالة نافعة أو ضارة.
    سبق أن شاهدت مسرحية رائعة للأمريكي "وليم لوسي" من شخص واحد، تعتمد حياة الشاعرة الأمريكية أميلي ديكنسون عبر قصائدها، يومياتها ورسائلها (متوفرة في اليوتيوب تحت عنوان The Belle of Amherst). والآن في السينما فيلم "عاطفة هادئة" A Quiet Passion للمخرج الانكليزي Terence Davies . المسرحية لم ترَ عاطفة ديكينسون هادئة كما رآها الفيلم، بل حاولت أن تبعث الدراما الداخلية بالمنَلوغ المصوّت، وهو ما تتطلبه دراما المسرح، حيث تبدو الشاعرة في عزلة رومانتيكية معهودة لدى المرأة. تقنيات السينما يمكن أن تريك الدراما الداخلية حتى في لحظات الصمت، فثمة كثافة وعمق عاطفيان يحيطان حواسك جميعاً، وهي خصائص عاطفة تليق بشاعرة خالصة للشعر بصورة فريدة كديكنسون، فيعرضها المخرج مفكرة حرة لا تخلو من دعابة، وإذا كان معتركها مع المحيط داخلياً هادئاً، إلا أنه صائت مع الحياة والكون؛ وحيدة في عالمها الخاص، لم تغادر بيت العائلة الريفي (حتى أنها لم تغادر غرفتها في مرحلة حياتها الأخيرة)، مع أن علاقتها بالعائلة بالغة الحميمية، لم تتزوج، وكانت في غنى عن المشاركة الاجتماعية. تكتب الشعر على طاولة صغيرة في الركن، ولا تطمع بنشره. تضع بضعة قصائد في ملزمة ورق، تخيطها ككراس وتوزعه على معارفها. هذا خيارها، وهو خيار لا بد أن ينحدر إلى حياة أسى ومرارة.
    وضع المخرج الفيلم في ثلاث مراحل متواصلة دون فواصل؛ مطلع الشباب مع الممثلة Emma Bell، ومرحلة النضج، ومرحلة الانحدار الصحي والعقلي مع الممثلة Cynthia Nixon التي انفردت بالدور حتى النهاية. هناك قصائد في كل ثنية من الفيلم تُقرأ بصوت الممثلة، حتى ليشيع الشعر كالرائحة؛ قصائد قصيرة stanzas ، تنتهي الجملة في البيت بشارحة لا أحد يعرف مغزاها، وتتطلع أبداً إلى محاور كبرى كالموت، الحب، والأبدية، وهي تطلعات الشاعر الكبير. ومع العزلة والأسى وهذا الارتباط المشيمي بالشعر يرتفع التساؤل الأبدي: لم هذا الارتباط القدري بين الموهبة الشعرية الكبيرة وبين محيط الأسى الداخلي؟
    عاشت أميلي ديكنسون في منتصف القرن التاسع عشر (30 ـــ 1886). في مطلع شبابها أُخرجت من المدرسة الداخلية بسبب تشككها الديني، وعادت إلى دفء العائلة؛ الأب والأم، والأخ وزوجته، والأخت. الكامرة تكاد تظل حبيسة هذا البيت على امتداد ساعتين ( أو 37 سنة من عمر ديكنسون)، ولكنك لا تشعر بذلك، بفعل الغنائية في كل شيء؛ حركة الكاميرا، الإضاءة، الأزهار، وتدفق القصائد.
    كانت ديكنسون غزيرة الكتابة للشعر، ولكنها لم تنشر في حياتها إلا بضعة قصائد من مجموع ما يقارب 1800 قصيدة، وما من أحد على معرفة بذلك، حتى اكتشفت أختها الصغرى "لافنيا" بعد موتها بقليل الخزين الشعري الكبير. أول مجموعة لشعرها نُشرت أول مرة عام 1890. قصيدتها، التي كانت تتركها دون عنوان، مبنية على نظام "الستانزا"، إلا أنها كانت تتصرف بحرية في التقفية. لم تكن طبيعة قصيدتها مألوفة في زمنها، ولذلك حورت بعض قصائدها من قِبل الناشرين لتلائم العرف السائد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram