قد نستغرب لو علمنا أن أشخاصاً من الذين طوروا البرامجيات التقنية مثل (بيل غيتس و الراحل ستيف جوبز و مارك زوكربيرغ) يفرضون نوعاً من التعتيم الالكتروني في بيوتهم، هذا مايحصل فعلياً؛ فهم لايسمحون لأفراد الأسرة أن ينشغلوا بالتلفونات الذكية ووسائل التواصل المختلفة في البيت وهو المكان الذي يخصص لممارسة الحياة الطبيعية والتواصل الحقيقي بين أفراد الأسرة مثلما هو مكان أليف وآمن لتطوير الذات عبر التأمل وقراءة الكتب والانغمار بالطبيعة؛ فيمنحون أنفسهم بذلك فسحة لفك الارتباط مع العالم الرقمي وتوفير الوقت لاكتساب قدرات جديدة بالقراءة والتأمل ومجاورة الطبيعة متحررين من المحددات الرقمية السائدة.
تعيش البشرية في عموم كوكبنا أسيرة ثقافة رقمية متغولة أصبحت تفرض سطوتها على جميع مجالات الحياة وغدت واقع حال لايمكن نكرانه، وتعد هذه الثقافة ثورة كبرى تُضاف إلى الثورات التي شهدتها البشرية من قبل وكانت لها مفاعيلها المؤثرة في حياتنا؛ غير أن الثورة الرقمية تتمايز عن الثورات السابقة بخصيصتين عظيمتي الأثر والنتائج: الخصيصة الأولى تغلغل مفردات الثورة الرقمية في جميع جوانب الحياة العقلية والسايكولوجية للإنسان جتى أصبحت تمارس معه ضرباً من الدكتاتورية المتغولة التي تشيع التنميط العقلي الجمعي المنذر بتبعات مدمرة في العقود المقبلة برغم الآفاق الواسعة التي تعِدنا بها على المديات القصيرة، أما الخصيصة الثانية فهي ملازمة التقنيات الرقمية للإنسان المعاصر على مدى ساعات اليوم كلها، فما عادت مقتصرة على أوقات محددة كشأن مفردات الثورات السابقة التي شهدتها البشرية، مما يضاعف تأثيرات الثورة الرقمية ويجعلها أشمل وأبعد مدىً من الثورات السابقة .
نعلم جميعاً أن الثورة التقنية حققت فوائد عظيمة لاتحصى لمن يستخدمها في مجال تعزيز الكفاءة المهنية وتوسيع الجوانب المعرفية المختلفة
والإنفتاح على ثقافات العالم المتنوعة التي كانت بعيدة المنال في الحقب السابقة؛ غير أن التعامل المعقلن مع هذه التقنيات يتطلب تدريباً منضبطاً وقدرة على الامساك بلجام الرغبات المنفلتة وذلك أمر يتعذر بلوغه مع الصغار أو محدودي الرؤية الذين تستدرجهم الإغراءات الصورية والمتع العابرة ؛ فالى جانب فوائد التقنية الرقمية المشهودة ثمة تأثير مدمر يكمن في تحول التعامل معها إلى عادة إدمانية لها تأثيرات مؤكدة على الدماغ كما تفعل أنواع الإدمان الأخرى التي تتسبب في فقدان قدر مهم من الإمكانات الدماغية التي كان بوسعنا توظيفها في عملية التعلم واكتساب قدرات جديدة.
ماهو الحل؟؟ وكيف نواجه هذه المؤثرات الخطرة؟؟ يرى العلماء والمفكرون الذين تصدوا لدراسة المؤثرات المدمرة - أن النزعات العرفانية والممارسات المماثلة التي تنحو باتجاه التفكّر والتأمل في الكون والطبيعة، يمكن أن تخدم في تخفيف السطوة التدميرية للتقنيات الرقمية، ولايقتصر الأمر على اعتماد آلية محايدة لإبعاد الأشخاص عن البيئة الرقمية ؛ بل إنه أبعد من ذلك، فالتأمل العميق والتواصل مع الطبيعة والتفكر بشؤون الكون يكشف عن قدرة الجانب العرفاني في توفير مايمكن وصفه بِـ (الترياق المضاد) لسموم التقنيات الرقمية، إذ يعيد الهدوء والابتعاد عن الاجهزة الرقمية تشكيل التشبيكات الدماغية وينشطها عندما لا يقتصر عملها على شكل واحد تفرضه التنميطات الرقمية المستمرة.
ويمكن للنزعة العرفانية في تواصلها مع الكون وتنشيطها لقوانا الروحية والابداعية اجتراح ترياقات مضادة لكثير من مثالب حياتنا المعاصرة، وأجدني أميل - بناء على تجربة شخصية - إلى أن بوسع النزوع العرفاني تغيير أمزجتنا ونظرتنا للحياة وتزويدنا بفيض من الطاقة الكونية الخلاقة المتعالية على المستنقع البشري وقوانينه المدمرة.
العرفان والثقافة الرقمية
[post-views]
نشر في: 17 يونيو, 2017: 09:01 م