على خلاف ما أعلنه قبطان الطائرة التي اقلتنا من بغداد الى باكو، والذي حدد زمن الرحلة بساعتين وعشر دقائق، إذ قبل أن تستوي الطائرة على البحر، فقد فاجأتنا المضيفة الجميلة، بندائها: إننا بدانا الهبوط التدريجي في مطار حيدر علييف، وبذلك ستكون الرحلة بساعة واحدة وخمسين دقيقة. كانت بقايا من شمس ناحلة توشك، تغادر الافق الآذري الرطب، فقد كان اليوم كله للغيم والمطر، نحن في منتصف حزيران، وكنا قد تركنا البصرة لناهبيها، تلهبها شمس محرقة.
حملنا في آذاننا دوي الهبوط ودخلنا صالة المطار، فتذكرت صوت موظفة المطار في بغداد، التي تعلن عن مواعيد الرحلات، تذكرت صوتها الرجولي، الذي أعادني الى نبرة صوت مقداد مراد، الذي قرأ خبر الاعلان عن توقف الحرب بين العراق وإيران، نهاية الثمانينيات، وهمست بأذن صاحبي مذكراً إياه بأصوات النساء الجميلات في مطارات العالم. كل مدينة تعدُّ نفسها لتكون الأجمل، إلا مدننا العراقية، الذكورة طغيان، وممارسة الفحولة معلم من المعالم، تأملوا معي صلف البرلمانيات، حدقوا في عيونهن واستمعوا الى اصواتهن وأمعنوا النظر في سيرهن وحركات ايديهن.
صار بحكم التقليد أن يأخذنا سائق التاكسي الى قلب المدينة، هكذا يفعل سائقو التاكسيات في العالم، فالسائح لا يعرف من المدن أبعد من مركزها نقطة يبدأ منها رحلته، ولأنَّ باكو تعدُّ شوارعها لمهرجان سباق السيارات(الرالي) فقد سوّرت البلدية أرصفتها بالحديد المشبك بسورين جميلين، واحد للحراسة والاسعاف وثان للمتفرجين. ولكي نتحدث عن الموانع الكونكريتية التي أحاطت الشوارع لتحول دون تطاير إطارات السيارات المنقلبة والمحترقة على المتفرجين، فقد تذكرت قبح الموانع الكونكريتية عندنا. لا أعرف من أي طينة عُجِنَ موظفو البلدية عندنا، وكيف انهم اختاروا الرعيان والحوش وعديمي الذوق، ممن لم يمسكوا وردة في حياتهم، ليحولوا بغداد والبصرة وباقي المدن الى الصورة المنتقاة للقبح.
أفتح الشرفة الغربية- هكذا أجد الجهات- فتهب ريح بحرية، ومنها يلوح قطيع سفن راسية في البعيد، ولكي امعن في تأمل الجهات، فقد فتحت الشرفة الشرقية، التي تطل على شارع ظريفة علييف، ومن هناك ستأخني الطريق الى الساحة الرئيسة والبوليفار وباكو القديمة، نزولا عند البحر ثانية. يقول صاحبي، الذي سبقني الى المدينة من قبل بأن نفقاً جميلاً سيحملنا الى هناك، وأنَّ اليوم سيكون أجمل في المساء، لأنَّ جميلات باكو يستعرضن فساتينهن وسيقانهن وأذرعهن وما اوتين من سحر وبراءة ورفقة ساعة يكنَّ على البحر، هذا إذا ما ظلت الريح عاقلة، ولم يلقين بأجسادهن في شاطئه الأزرق، فهنَّ لا يصبرن على الشمس مشرقة دافئة عنده.
تسوي عائشة شعرها امام المرآة، وتأخذ زينب حقيبتها الصغيرة الى غرفة مجاورة، تعيد ترتيب ثيابها وأقراطها ثم تنشغل بهاتفها الذكي، فأعجب، انهن لا يعانيان من جرس الاسمين الضِّدين(زينب وعائشة) يقول صاحبي: الشعب الآذري شعب مسلم شيعي، وهم يسمون فاطمة وسكينة وعائشة وخديجة وام كلثوم ورباب ومريم ونور، دونما شعور طائفي، ثم راح يحدثني عن مزارين لأثنتين من نساء عبد مناف، لكنه لم يكن ليخدعني بالصورة النمطية المطبوعة في رأسي، عن المراة الشيعية عندنا، حيث يمعن والدها وشقيقها وشيخ العشيرة ورجل الدين والناس في الشارع والسوق والمدرسة بروحها سحلا وتشعيثا، حيث أناقتها تهمة وذهابها الى الجامعة جريمة ووجدوها في البيت حلاً لحياتها.
فـي باكو التي دخلتها امس
[post-views]
نشر في: 17 يونيو, 2017: 09:01 م