رأيت الملحن الموسيقي الروسي الكبير ديمتري شوستاكوفتش (1906- 1975) آخر مرة في شتاء عام 1975 في مسرح بوكروفسكي الموسيقي بموسكو لدى تقديم عرض اوبرا " الأنف " المستوحاة من رواية نقولاي غوغول الشهيرة. وقد بدا عليه يومذاك الضعف البالغ بعد إصابته بنوبة قلبي
رأيت الملحن الموسيقي الروسي الكبير ديمتري شوستاكوفتش (1906- 1975) آخر مرة في شتاء عام 1975 في مسرح بوكروفسكي الموسيقي بموسكو لدى تقديم عرض اوبرا " الأنف " المستوحاة من رواية نقولاي غوغول الشهيرة. وقد بدا عليه يومذاك الضعف البالغ بعد إصابته بنوبة قلبية ثانية جعلته طريح الفراش طوال أكثـر من شهر. وقد ألف شوستاكوفتش موسيقى هذه الاوبرا، ولكنها لم تقدم على خشبات المسرح السوفيتية خلال فترة طويلة.لذا كان هذا العرض حدثاً موسيقياً خاصاً استوجب أن يحضر فيه المؤلف. أما ترحيب الناس به فهو دليل على تقييم انجازاته الفذّة في تطوير الموسيقى ووضعها مثل كافة مجالات الابداع الأخرى في خدمة الانسان التي هي الفكرة الرئيسة لجميع أعماله الموسيقية. وبعد عدّة أشهر من هذا العرض انتقل شوستاكوفيتش الى جوار ربّه.
إن تكريم الجمهور لشوستاكوفتش جاء ليس فقط لكونه الموسيقار السوفيتي الأول في البلاد آنذاك، لا سيما بعد رحيل بروكوفييف، بل لنشاطه كرجل دولة وشخصية اجتماعية أيضاً. فقد كان خلال فترة طويلة نائباً في مجلس السوفيت الاعلى وسكرتيراً لاتحاد الملحنين في الاتحاد السوفيتي وبطل العمل الاشتراكي ورئيس لجنة مسابقة تشايكوفسكي وعضو لجنة جوائز لينين، بالاضافة الى عضويته في الحزب الشيوعي السوفيتي. وقد منح وسام لينين ثلاث مرات وجائزة ستالين أربع مرات، كما منح لقب فنان الشعب السوفيتي. ولا يتسع المجال هنا لذكر الجامعات والاكاديميات العالمية التي منحته لقب الدكتوراه الفخرية أو العضوية فيها.
ويبدو أن السلطات الرسمية أرادت زجّه في مؤسساتها كما فعلت مع الشخصيات الثقافية البارزة الأخرى بهدف احتوائها. لكن شوستاكوفتش وجدها من جانب كوسيلة للتأثير ولو جزئياً على مواقف الموظفين البيروقراطيين، ومن جانب آخر أراد فعلاً أن يقدم الخدمة لبسطاء الناس باستغلال منصبه كنائب في مجلس السوفيت الأعلى. وكما قال قائد الاوركسترا المعروف يفجيني مرافينسكي صديق الموسيقار عنه :" ما كان بوسعه أن يرى إنساناً يعاني من البرد والجوع ". ولكن عضويته كنائب في مجلس السوفيت الأعلى كانت تكلفه غالياً جداً، لأنه لم يستطع بحكم طبيعته الانسانية شغل هذا المنصب بصورة شكلية مثل الكثيرين غيره، ولم يقتصر نشاطه على حضور الجلسات والتمتع بالامتيازات التي تمنح الى النائب.أن أرشيفه الشخصي والأرشيف الحكومي السوفيتي يتضمن الآف الرسائل الواردة إليه من الناخبين التي تتضمن الشكاوى من المظالم وطلب المساعدة في الحصول على غرفة أو شقة للسكن أو العلاج في المستشفى أو رفع الحيف عن سجين أدخل السجن ظلماً. وكانت اليد التي تكتب النوتات الموسيقية لسيمفونياته الرائعة تكتب نفسها الطلبات الى المسؤولين لحل مشاكل الناس. كان ديدن شوستاكوفيتش التعاطف مع أيّ إنسان مهما كان، والقول انه كان رجلاً طيب القلب لا يعني أي شيء، لأنه أعظم من هذا بكثير.
ولد ديمتري شوستاكوفيتش في 25 ايلول عام 1906 في عائلة ذات أصول بولندية تعرض افرادها مراراً الى الاعتقال والنفي الى سيبيريا لمشاركتهم في الحركة الثورية البولندية ضد النظام القيصري. لكن والده المهندس الكيميائي آثر ترك النضال الثوري ومعاناة النفي في سيبيريا، كما كان حال أبيه وجده، وقرر العمل مع مندلييف العالم الشهير واضع الجدول الدوري للعناصر. وكان والد شوستاكوفتش من كبار هواة الموسيقى والغناء بصوته "الباريتون" الرنان. كما كانت زوجته صوفيا ذات موهبة موسيقية. وانتقلت الرهافة الشاعرية والرغبة الشديدة في التعامل مع الفن وحب الموسيقى الى ولدهما ديمتري ، وحين بلغ الصبي الحادية عشرة من العمر، ارسل الى مدرسة موسيقية أهلية يديرها غلياسر. وفور ذلك اكتشف المعلمون مواهب الصبي النادرة، ثم قدمه اساتذة المدرسة الى الموسيقار الكسندر غلازونوف مدير كونسرفتوار بطرسبورغ الذي اثنى على مهارة الصبي كعازف بيانو ، لكنه نصحه لدى الاطلاع على مقطوعاته الخاصة بآلة البيانو بممارسة التأليف الموسيقي، ووصفه بأنه "موزارت الروسي". لقد ذهل الجميع آنذاك لما تمتع به الصبي من حس موسيقي أصيل وذاكرة موسيقية فذة وسمع مرهف.
وقد وجدت موهبته الفرصة للتطور في الكونسرفتوار لاحقاً. وأعجب جميع الاساتذة والطلاب هناك بقدراته في قراءة النوتات وحفظها من أول نظرة وحدة ذكائه واستيعابه لكل المواد الدراسية بسرعة. لكنه اصيب بنكبة في العام الاخير للدراسة في الكونسرفتوار حين توفي أبوه المعيل الوحيد للعائلة. فاضطر الفتى ديمتري الى العمل في إحدى دور السينما التي كانت تقدم الافلام الصامتة في عام 1922، ويتم عرض الفيلم هناك بمرافقة العزف على البيانو . طبعاً أن العمل بالاضافة الى الدراسة قد اثر في صحة الفتى. لكنه استطاع انهاء السنة الدراسية الأخيرة وبدأ العمل كموسيقي محترف وقدم الى الجمهور اول سيمفونية له جعلته رغم صغر سنه في عداد الموسيقيين المعروفين الكبار. وفي عام 1925 انهى الدراسة في قسم التأليف الموسيقي في كونسرفتوار بطرسبورغ. وواصل العمل كعازف بيانو وشارك في مسابقة شوبان الدولية في وارشو، حيث منح دبلوم الشرف. كما بدأ العمل مع المخرجين السينمائيين الكبار في تأليف الموسيقى التصويرية. ولا تزال الموسيقي التصويرية لفيلمي سيرغي ايزنشتين " الكسندر نيفسكي " و "ايفان الرهيب" تعتبر من روائع الاعمال الموسيقية. زد على ذلك كان شوستاكوفتش أوّل ملحن يدخل الاغنية في سياق الموسيقى التصويرية.
في عام 1937 بدأ شوستاكوفتش العمل كأستاذ في كونسرفتوار بطرسبورغ ، وانجز أيامذاك تأليف السيمفونية السادسة. لكن لدى اندلاع الحرب العالمية الثانية في 22 حزيران عام 1941، وفرض طوق الحصار على لينينغراد وجد شوستاكوفتش نفسه داخل طوق الحصار حيث تواصل قصف المدينة وساد فيها الجوع والبرد والاوبئة والخراب. وكتب يومذاك في دفتر النوتات :" إنني اكرس السيمفونية السابعة الى نضالنا ضد الفاشية ونصرنا على العدو، والى مدينتي العزيزة لينينغراد". وتصور هذه السيمفونية الصراع بين الخير والشر.وعزفت السيمفونية السابعة في 7 آب وأذيعت من جميع مكبرات الصوت في المدينة وضواحيها لكي يسمعها الجنود الالمان أيضاً بمثابة تحد لهم. وقد افلحت سلطات المدينة لاحقا في نقل شوستاكوفتش المريض والجائع مع مجموعة من الاطفال بالطائرة الى خارج المدينة بطلب من القيادة بموسكو، واستقر به المقام في مدينة كويبيشيف (سامارا اليوم) الواقعة على ضفاف الفولغا.في عام 1943 انتقل شوستاكوفتش الى موسكو، حيث واصل العمل في تأليف السيمفونية الثامنة وتناول فيها المؤلف مرة أخرى موضوع الحرب الذي بدأه في السيمفونية السابعة. وواصل العمل في تأليف السيمفونية التاسعة التي عزفت في عام 1945 في لينيغراد المحررة. وتجسد فيها لأوّل مرة عالم المشاعر والامزجة الخاصة المميزة لفترة السلم. لكن المؤلف تعرض عندئذ الى أشد الهجمات في الصحف السوفيتية، واعتبر النقاد إن "أعماله لا تفيد أحداً وحتى انها تجارب شكلية ضارة". والمقصود بالأمر الصيغ الموسيقية الجديدة التى ابتدعها المؤلف فيما يخص النغم والترجيعات. وفي عام 1953 انجز السيمفونية العاشرة ذات السمات الشاعرية والتعبيرية وطابع الالحان فيهما مستمد من الروح الغنائية الشعبية الروسية.. واعقبها بالسيمفونية الحادية عشرة المكرسة الى ثورة 1905 بينما كرس السيمفونية الثانية عشرة الى ثورة 1917. وتحتل السيمفونية الثالثة عشرة " بابي يار" أو " الفزع " التي كتبت في عام 1961 مكانة خاصة في ابداع شوستاكوفتش حيث إعتمدت لأول مرة على قصيدة الشاعر يفجيني يفتوشينكو الصادرة بهذا العنوان والتي ينشدها المغنون بمصاحبة موسيقاه. ويعبر المؤلف فيها عن الحركة المعقدة لروح الانسان في خضم الاحداث المأساوية لإعدام الأسرى والمدنيين في بابي يار بأوكرانيا. وانجز المؤلف السيمفونيات الثلاث الباقية في اعوام 1963 و1969 و1971، وانضمت الى أعماله الأخرى من اوبرات وباليهات التي كانت لا تفارق خشبات المسرح السوفيتية. لقد كان نشر كل سيمفونية جديدة يلقي ردود فعل كبيرة ليس في الاتحاد السوفيتي فقط ، بل وفي الخارج أيضا . وكان توسكانيني وفون كارايان وغيرهما من كبار قادة الاوركسترا في اوروبا وأمريكا يتلهفون على تقديم أعمال شوستاكوفيتش السيمفونية الجديدة.
بيد ان عامي 1937 – 1938 شهدا فترة عصيبة جدا بالنسبة الى شوستاكوفتش والبلاد أجمع. فقد قرر ستالين آنذاك التخلص من جميع منافسيه. وكان شوستاكوفتش في حالة رعب دائم خوفاً من كثرة حوادث اعتقال واعدام المثفين.
ويبدو أن ستالين نفذ أيامذاك مقولة لينين بشأن الدكتاتورية: "أن الدكتاتورية تعني السلطة .. التي لا تتقيد بأية قوانين.. ويمكن أن تمارس الدكتاتورية زمرة من الافراد أو الطغمة الاوليجاركية أو طبقة واحدة .."(المؤلفات الكاملة ، م37 ، ص. 244). لقد كان ستالين في الواقع منذ بداية الثلاثينيات الدكتاتور والحاكم المطلق للبلاد. وعندما اشتدت حملة القمع الستالينية في النصف الثاني من الثلاثينيات في سياق الصراع على السلطة بين قادة الحزب وليس بسبب الخلافات الايديولوجية، كما يتبين الآن من الوثائق السرية المنشورة، وجرت ممارسات التعذيب والاعتقالات السرية والملاحقات ، طالت ضمنا الكثير من رجال الثقافة الذين اعدموا أو ارسلوا الى معسكرات الاعتقال. وكان لابد أن يمتد لهيبها الى شوستاكوفتش أيضاً الذي بذل كل جهده لإلتزام الصمت وممارسة عمله في التأليف الموسيقي . فنشرت " البرافدا" عدّة مقالات تتهمه بالشكلية وبالخنوع للتقاليد البرجوازية وهلمجرا. واستغل الفرصة طبعاً حساد موهبة شوستاكوفتش المتألقة من الموسيقيين الفاشلين مثل تيخون خرينيكوف وغيره، وكذلك موظفو القسم الثقافي في اللجنة المركزية، الذين سايروا حملة القمع بالبحث عن اية ثغرة لإتهام أيّ شخص بالخروج عن خط الحزب في مجال الثقافة ضمناً من أجل إرضاء سلطات البلاد. إن ارشيف الدولة للأدب والفن ومتحف غلينكا وارشيف تاريخ الدولة المعاصر ومركز شوستاكوفتش للوثائق في باريس يحتوي على الكثير من الشواهد على ملاحقة هذا الملحن الفذ في تلك الفترة والسعي الى ايجاد الحجج للطعن في ولائه للسلطة. ولابد من القول إن شوستاكوفتش تعرض باستمرار لهجمات الحساد والحاقدين منذ سطوع نجمه في العشرينيات. ففي 25 آذار 1925 كتب الى أمه: "في الأمس قدمت حفلة موسيقية. موفقة جداً. وكان النجاح باهراً .. أريد أن اعرف ماذا سيكتب النقاد. إنهم سيشتموني في أغلب الظن. لكن يجب عليّ ألا أحزن البتة. دعهم يكتبون
أن شوستاكوفيتش خال من الموهبة، وأن مؤلفاته مثل.. ب ...الكلب.. وارجو المعذرة لهذا القول. دعهم يكتبون . ونحن سنريهم لاحقاً..".لكن شوستاكوفتيش كان دوماً يلتزم الصمت عن ناقديه.
لا يمكن القول بأن ما تعرض له شوستاكوفتش من هجمات واتهامه وغيره من الموسيقيين المعاصرين الآخرين مثل سترافينسكي وبروكوفييف بالشكلية وبالخروج عن القواعد التقليدية في التأليف الموسيقي، كان يتم فعلاً بإيعاز من الكرملين. أن القادة السوفيت وعلى رأسهم ستالين، لم يكونوا من المتضلعين في الشؤون الموسيقية بقدر كاف يؤهلهم لكي يستطيعوا الحكم على مستوى الابداع. إن لغة الموسيقى تختلف عن اللغة المكتوبة مثلاً. وقد افلح الموظفون الحزبيون في ملاحقة ماياكوفسكي ويسينين وتسفيتايفا وفادييف لحد جعلهم يقدمون على الانتحار للتخلص من العذابات والاوجاع والملاحقات، وكذلك في تضييق الخناق على غوركي وبلاتونوف وبولغاكوف وشولوخوف وفي المحاولات لاجبارهم على الكتابة وفق القوالب الحزبية، وإلا سيمنع نشر اعمالهم وجعلهم يتضورون جوعا مع عوائلهم. كلا، إن الموسيقيين كانوا في وضع أفضل من هذه الناحية. ولو أن العمل المرهق في التأليف، والإجهاد الجسدي والنفسي ومقاومة الضغوط ، أديّا الى تدهور صحته ولهذا فارق الحياة مبكراً.
ورغم شهرته العالمية فقد كتب شوستاكوفتش في 3 شباط 1967 عند تدهور صحته ".. إنني أفكر كثيراً في الحياة والموت والعمل المهني.. إنني اصبت بخيبة أمل بنفسي. أو بالأحرى لقد اقتنعت بأنني ملحن رديء ومحدود الموهبة.. لكن التأليف الموسيقي - هو شغف من نوع المرض – إنه يلاحقني أينما ذهبت...".
وثمّة عامل مهم آخر جعل شوستاكوفتش ظاهرة فريدة من نوعها في الوسط الثقافي السوفيتي فهو رفضه الهجرة الى خارج الاتحاد السوفيتي بالرغم من إتاحة الفرصة له لذلك، حيث كان غالباً ما يسافر الى خارج البلاد لتقديم أعماله أو للمشاركة في الاحداث الموسيقية والثقافية. إنه لم يفعل مثل اشكينازي وروستروبوفتش وفيشنيفسكايا وكوندراشين وشيدرين وعبيدولينا وغيرهم الذين سافروا الى الخارج ولم يرجعوا الى الاتحاد السوفيتي بحجة وجود الرقابة الحزبية وعدم توفر الحرية في الابداع . وهذا بالذات ما جعله يحظى، مع صديقه بروكوفييف الذي بقي في الاتحاد السوفيتي أيضاً، باحترام قادة الكرملين وتكريمهم. ولكن لا بد من الاعتراف بأن شوستاكوفتش يعتبر بحق رائد حركة الحداثة في الموسيقية الكلاسيكية المعاصرة، ليس في روسيا وحدها، وواصل التأليف وفق ما تمليه موهبته، بالرغم من الانتقادات الصارخة ضده بين حين وآخر. لقد وجد أن خير مكان يتيح له أداء واجبه تجاه شعبه هو روسيا التي تمنحه تقاليدها الموسيقية والغنائية الالهام في إبداع صيغ موسيقية جديدة مستقاة من الطبيعة الروسية ومن أغاني الفلاحين الروس. وقد صبر شوستاكوفتش وكافح لكي يساير الاوضاع السائدة في البلاد وآثر عدم الوقوف جهاراً ضد السلطة، هذا من دون التخلي عن إصالته. وما ينسب اليه في بعض الكتب الصادرة في الغرب بصدد أقواله ضد السلطة يعتبر مشكوكاً فيه للغاية، حيث لا نجد في جميع الوثائق المحفوظة ومنها التي رفعت عنها السرية مؤخراً كلاماً يدين فيه قيادة البلاد وسياستها. ولا يكمن السبب في ذلك في منحه المناصب في جهاز الدولة أيّ مقعد النيابة في البرلمان وغيره والعمل في الكونسرفتوار والانتماء الى الحزب الشيوعي، وإتاحة الفرصة له للعمل في تأليف 15 سيمفونية والعشرات من اعمال الكونشرتو والسوناتات والاوبرا الأخرى بدون أيّ حظر يفرض عليه. بل أن السبب يكمن في تعلقه بأرض وطنه.هذا أمر لا يمكن أن ينفيه أحد.