ما زال المخيال غائباً في الحياة الثقافية العراقية، لأنه عنصر ثقافي وفكري وفلسفي معقد، يمتد بحضور في العلوم الإنسانية واهتم به كثير من الفلاسفة والمفكرين، بالإضافة الى تمركزه القوي والمهيمن في علم النفس الاجتماعي والانثـربولوجيات ويكاد يكون المخيال مت
ما زال المخيال غائباً في الحياة الثقافية العراقية، لأنه عنصر ثقافي وفكري وفلسفي معقد، يمتد بحضور في العلوم الإنسانية واهتم به كثير من الفلاسفة والمفكرين، بالإضافة الى تمركزه القوي والمهيمن في علم النفس الاجتماعي والانثـربولوجيات ويكاد يكون المخيال متمتعاً بمساحة ممتازة وعميقة في علم النفس الاجتماعي والانثـربولوجيا، وكان كل من فرويد ويونغ قد اعتنيا به كثيراً وأيضاً تميزت الجهود المعرفية والفلسفية لجلبرت دوران أكثر تميّزاً في بحثه الموسوعي ( الانثـربولوجيا، رموزها، أساطيرها، أنساقها ) وهذا البحث الموسوعي هو الذي لفت الانتباه للمخيال خلال فترة السبعينيات، وتحركت كل التوصلات المعرفية والفلسفية لأهم المفكرين والفلاسفة، في تلك الفترة وما قبلها .
ولأن المخيال تعبير عن الواقعي، لكنه ليس كذلك كلياً، فإنه يقدم لنا تصورات عن اللا واقع، ويضيء شبكة من الرموز الواعية واللا واعية ، لأنهما في نظرية يونغ متماثلان في النتائج على الرغم من أنهما مختلفان بالبدايات، لأن الوعي قادر على إنتاج الأفكار واللاوعي مميزاته المخيال، أي الصور وهذه ـ الصور ـ تفضي نحو اختلافات جوهرية بسبب الموقف الفلسفي الخاص بكانط وثانياً لدى هوسرل وهايدجر، فالأول تعامل مع الصورة بوصفها مرحلة خيالية، أما هوسرل وهايدجر فقد تعاملا معها ـ الصورة ـ بوصفها عيانية ولهذا علاقة واضحة ومعروفة مع ظاهراتية هوسرل / الفينومينولوجيا / أو الفينومان / الذي يعني المظهر، الظاهر / المكشوف / المتجلي وهذه معاً لها علاقة ممتازة جداً بالصورة ، المرصودة بالعين . وهي التي اقترحت العلامات في فلسفة هايدجر الذي انحرف عن قناعته الفلسفية الخاصة بكانط في نقد العقل المحض، وذهب سريعاً وقوياً وبحماس نحو ظاهراتية هوسرل / الفينومان، الظاهر / المظهر، المنكشف والذي اعتمد عليه هايدجر في تحديد رؤيته عن الصورة / المخيال في كتابة الكينونة والزمان.
تمركزت تصورات هايدجر حول المخيال عبر اهتمامه المركزي المعروف عن الزمانية الانسانية، لأنه تعامل معها بكونها تشكلاً لسانياً وأدبياً لاحقاً. وقد استفاد هايدجر كثيراً من التوصيفات الفلسفية لكانط في البداية ولاحقاً بهوسرل، ووظف توصلات الفينومان على المفاهيم الذاهب نحوها وخصوصاً نظريته الجديدة عن الزمان والسرد ، وقد ساهمت بإضافة مجال اجتماعي جوهري لموضوع المخيال الأدبي وأيضاً للزمان والسرد الذي تحول جوهراً فلسفة وتطبيقاته اللاحقة في مجال السرد المتجه مصحوباً بحيوية الكينونة والزمان ويجعل منه أحد العناصر المهمة في تكوين الانطولوجيا المعرفية وهذا ما لم تتوصل له نظرية كل من كانط وهايدجر كما قالت د. خولة الحسيني.
وإذا ذهبنا نحو ريكور أكثر ونتصفح فلسفته في الزمان والسرد وحيازته لمتجوهرات هايدجر الخاصة بالوجود ، فإننا سنجد بأن فلسفته [ استفادة من سعيد الغانمي / الوجود والزمان والسرد ] قد انفتحت على مجالين جوهريين ومركزيين، وهما كما هو معروف ، الانثربولوجية الفلسفية التي استطاعت تأسيس وترسيخ موقف فلسفي عن الارادة، متجهة باتجاه الفينومان / الهوسرلية، بالإضافة للانطولوجيا الوجودية التي تمركزت في تصورات بول ريكور، وصارت أفقاً داعماً لانطولوجيا خاصة بالمعرفة، ومن هنا تكونت أهمية السرد الجديدة.
حاول بول ريكور إيجاد علاقة مشتركة بين المجالين اللذين اشرنا لهما والتوصل لاحقاً " لتأويلية نقدية تريد الاستفادة من آخر ما توصلت اليه علوم اللغة ونظريات الاتصال "إن الحديث عن المخيال، يستدعي استذكار الرمز واستحضاره بكل ما يتمتع به من قوة، لأن الرمز من الابتكارات الجوهرية للمخيال الذي تمركز بطاقته على ابتكار شبكات رمزية في العالم، وجعل منها ـ في كل حضارة من الحضارات ـ ممكنات يقظة وحيّة لذلك العالم، الذي سيظل معروفاً، ومتميزاً برموزه، وستبقى حضارته مزدهية بما توصل إليه مخيالها، ومعروف بأن مخيال شعب ما لا يتماثل مع غيره من مخيالات شعوب الأرض، بل يحافظ كل منها ـ المخيالات ـ بما يجعله منفرداً بما أنتج من رموز خاصة به، وإذا رأى مخيال شعب ما ضرورة التجاور مع منتجات مخيال مجاور آخر، ويتسلم منه، كشكل من أشكال الحوار وحيازة التنوع وتكريس الانبناء الثقافي وترصينه . وبمثل هذا التشكل الثقافي، ينحرف الرمز قليلاً وتمنحه تخيلاته الجديدة روحاً، تجعل منه ما هو مغاير عمّا كان مألوفاً في محيطه الأول "أن علاقة الرمز بالتأويل عند ريكور علاقة جنينية ترتسم حولها وبها معالم الحقل الابستمولوجي المؤسس للهرمينوطيقا، فهي التي تحدد في النهاية التنوع والوحدة وعلاقة الذات بالآخر وبالمرة علاقة إمكانية المزاوجة بين تأويلات عدة، بل أن يحمل معنى واحداً أو دلالة واحدة / بول ريكور / بعد طول تأمل / تر : فؤاد مليت / المركز الثقافي العربي / دار العربية للعلوم / بيروت 2006 / ص9 .
الرمز لدى بول ريكور جنين الواقع وخليته الحية الباقية للأبد، تتشعب وتتشابك مع رموز أخرى، لا تفارق واقعها ، لكنها بالمحصلة النهائية ترسم لنا واقعاً مغايراً ومختلفاً، أنه اللا واقع ، كما قال سارتر. يطاوعنا الرمز لاستدراجه نحو المخيال، لأنه لن يكون بعيداً عنه في كل الحالات، بل هو منتجه ومراقبه وهو يرتحل وينمو ويتطور شيئاً فشيئاً، حتى يتحول الى نوع من المزاولة اليومية المعروفة، والمألوفة، حتى يذهب أبعد من ذلك كما قال ريكور كي يستهدف قصدياً أفق واقع جديد، يمكن أن نسميه عالماً .... وعالم النص هو مرجع المخيال، وهو يقابل المخيال لا بوصفه إبداعية تحكمها القوانين، بل بوصفه قدرة على إعادة الوصف، إذن عالم النص هو العماد الذي يرتكز عليه " القوس التأويلي [ النقطة التي تتوسط بين التفسير والفهم ] فضلاً عن ذلك، ففي فكرة عالم النص تتقاطع وتتداخل التأويلية والانثربولوجية الفلسفية لديه ..... وذهب بول ريكور أكثر مما ذكرنا باتجاه النص، وقال بأن النص هو ما يجب تأويله، لأنه العالم المقترح، الذي يمكن أن أسكنه، وفيه يمكنني أن أشرع إمكاناتي الخاصة في هذه الحالة، فالعالم الذي يشترعه العمل الأدبي يسمح للمرء أن يستكشف ممكنات الفعل وبذلك يكون له تجارب مخيالية، ويفهم ريكور من التجربة المخيالية بأنها الطريقة الفعلية لسكن العالم المقترح والقصدية المتميزة له، أما السرد المخيالي، فإنه يتمثل في تقديم عالم وطريقة جديدة في إدراك الأشياء أو الممكنات / فانهوزر كيفن / أسلوب فلسفة ريكور في الزمان والسرد / تر: سعيد الغانمي / المركز الثقافي العربي / بيروت 1999 / ص82 .
لا يستطيع أحد تجاهل العلاقة الثنائية بين بول ريكور وهايدجر، لأن الأول صاغ نظريته الخاصة بالسرد والمعروفة لنا جميعاً، وتشرب أفكار هايدجر في الكينونة والزمان، لكنه ذهب أبعد مما وصل إليه هايدجر، خصوصاً في مجالي السرد والتاريخ، لكنه ـ بول ريكور ـ ظل حريصاً في إبلاغ القارئ عن عظمة علاقة الاثنين مع بعضهما، ولعل الإشارة المتكررة لبول ريكور عن العالم السردي الذي يسكنه، تقدم تصوراً مهماً عن فعالية هذا الوجود .