TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > عن بوردا والخياطة أم بديع

عن بوردا والخياطة أم بديع

نشر في: 20 يونيو, 2017: 09:01 م

من اللحظات السعيدة في طفولتي، والتي كانت لا تُحصى، هي لحظات مصاحبتي لأمي في زيارة الخياطة «أم بديع». لم أعرف اسمها، فقط كنيتها، عندها ولدان، بديع ولميع. ولأن بديع الأكبر فقد أُطلق عليها، «أم بديع». كان بيتها يقع في سوق صناعة الآلات الزراعية، المحراث والمنجل وغيرهما من الآلات. كان العاملون هناك بالأحرى كلهم من طائفة الصابئة المندائيين، بلباسهم التقليدي، الدشداشة والغترة الحمراء المرقّطة بالأبيض غالباً، ولحاهم الكثيفة. بيتها وقع عند نهاية السوق، عند نهاية المحمودية، وحيث تبدأ محلة السرية. شكلت رحلتي وحدها إلى هناك متعة لي. وحده الجلوس في باحة البيت بمواجهة أم بديع وهي تجلس عند ماكنتها ماركة سنغر القديمة، فيما تضرب قدماها على قاعدة الماكنية بحركة متوازية مع حركة يديها وهي تدفع قطعة القماش على سطح الماكنة في الأعلى، هو متعة تفوق التصور. الصغار الآخرون الذين جاءوا بصحبة أمهاتهم يلعبون ويركضون في زوايا البيت، وأنا أظل محافظاً على جلستي تلك، أراقب أم بديع في حركتها، أسمعها تتحدث بصوتها الناعم والموسيقي، كأنها ضبطته على إيقاع حركة قدميها ودفع يديها للقماش تحت ضربات الإبرة. ربما دار الحديث بين النساء اللواتي جلسن هناك، عن الشؤون المنزلية أو عن السوق والأزواج والأطفال، إلا إنه في هذه الحالة لن يستمر طويلاً، لأن النساء اللواتي جئن في ذلك اليوم لم يجئن للحديث عمّا سيتسوقنه من السوق أو ما يطبخنه لأزواجهن في ذلك اليوم، أو للحديث عن مشاغبة أولادهن والبنات، عن مستواهم الدراسي وصعوبة المدرسة. كلا، النساء لا يشغلن أنفسهن بأحاديث يمكن أن تدور في أي يوم، بل جئن من أجل أمر واحد وحسب: من أجل مجلة بوردا. يوم وصول بوردا من بغداد هو كرنفال بالنسبة لهن؛ مناسبة للاحتفال. طبعاً بالنسبة لي أنا أيضاً، لأن أغلب أعداد بوردا التي وصلت إلى أم بديع جلبها أبي من بغداد. أي امتياز حصلنا عليه، كنت أقول لنفسي: جلب بوردا من بغداد. أظن أن أمي كانت هي أيضاً فخورة. كلما جلب أبي عدداً جديداً من بوردا رأيتها تلبس ملابسها الأنيقة، تضع الماكياج على وجهها وترشّ العطر ثم تطلب مني مرافقتها إلى بيت أم بديع، رغم أنني كنت أعرف: وصول مجلة بوردا يعني الذهاب إلى بيت أم بديع. الغريب هو أنه، وبالرغم من عدم شيوع أجهزة التلفون آنذاك، لا يستغرق الأمر طويلاً حتى يكون الخبر قد انتشر بين نساء الحي بسرعة البرق، فنجدهن بانتظار أمي عند بيت أم بديع. وحتى قبل أن نجلس على البساط الذي فرشته أم بديع لضيفاتها وسط ساحة البيت، تتعالى أصوات النساء، تطلب من أمي رؤية المجلة، التي ستدور من يد إلى أخرى، بعضهن سيشرن إلى أحد الموديلات أو إلى أحد الأثواب، البعض الآخر لا يعجبه ما يراه من موديلات، وكنت أكتفي بالتطلع بالنساء المنشغلات بكرنفالهن، كرنفال بوردا، أفكّر ببغداد، بشارع الرشيد، بمكتبة مكنزي، حيث كانت تُباع المجلة غالباً. أي مدينة جميلة تلك التي ترسل بوردا، مجلة ألمانية إلى النساء من صديقات أمي وجاراتها، غالباً لم يخلُ الأمر من الغموض، كأن المجلة الأنيقة المليئة بالصور ومخططات لخياطة بعض الأثواب تُصنع هناك، في بغداد.
الجو المحيط بي، الذي كان أشبه بالكرنفال، كان يُفرحني، والفرحة تلك ستتضاعف عندما أجلب أنا المجلة؛ عندما سأسلّم المجلة بنفسي إلى أم بديع. أية لحظة سعيدة تلك!
هذا ما رويته قبل أيام لهوبيرت بوردا، إبن تلك السيدة التي أسست مجلة بوردا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ونحن نجلس في صالون فيلته في ميونيخ. هو الآخر أصدر حسرة عميقة وهو يتذكر أمه وتلك الأيام، وهو يفتقد بوردا التي اندثرت تقريباً اليوم، حسرة لا تختلف عن الحسرة التي تصدرها أمي اليوم كلما تذكرت بوردا، رغم أن الفارق بين الاثنين، هو أن الرجل صاحب مؤسسة ميديا كبيرة ومجلات ودور نشر، يعيش رفاهية وسلام، فيما عاشت أمي أزماناً صعبة، فقراً وحروباً وفقدان. أية مفارقة: الاثنان يتوحدان في تحسرهما على اندثار زمن جميل.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: عاد نجم الجبوري .. استبعد نجم الجبوري !!

العراق إلى أين ؟؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

 علي حسين دائما ما يطرح على جنابي الضعيف سؤال : هل هو مع النظام السياسي الجديد، أم جنابك تحن الى الماضي ؟ ودائما ما اجد نفسي اردد : أنا مع العراقيين بجميع اطيافهم...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان البحر الاحمر فسيفساء تتجاور فيها التجارب

 علاء المفرجي في دورته الخامسة، يتخذ مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي شعار «في حب السينما» منهجًا له، في سعيه لإبراز هذا الشغف الكبير والقيمة العليا التي تعكسها كل تفصيلة وكل خطوة من خطواته...
علاء المفرجي

لمناسبة يومها العالمي.. اللغة العربية.. جمال وبلاغة وبيان

د. قاسم حسين صالح مفارقة تنفرد بها الأمة العربية، هي ان الأدب العربي بدأ بالشعر أولا ثم النثر، وبه اختلفت عن الأمم التي عاصرتها: اليونانية، الفارسية، الرومانية، الهندية، والصينية.. ما يعني ان الشعر كان...
د.قاسم حسين صالح

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

جورج منصور في عالمٍ يتسارع فيه كلُّ شيء، ويكاد الإنسان أن ينسى نفسه تحت وطأة الضجيج الرقمي والركض اليومي، يظلُّ (معرض العراق الدولي للكتاب)، بنسخته السادسة، واحداً من آخر القلاع التي تذكّرنا بأن المعرفة...
جورج منصور
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram