تُعد السينما مجالاً خصباً لتحقيق الغاية الثقافية، لمقدرتها على استيعاب واحتواء مختلف أنواع وتمفصلات المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية، دون أن يخل هذا التنوع والتعدد والاختلاط بأدبياتها، ولا يمس بمظاهر فتنتها وتميّزها، ولأن الف
تُعد السينما مجالاً خصباً لتحقيق الغاية الثقافية، لمقدرتها على استيعاب واحتواء مختلف أنواع وتمفصلات المجالات الثقافية والسياسية والاجتماعية، دون أن يخل هذا التنوع والتعدد والاختلاط بأدبياتها، ولا يمس بمظاهر فتنتها وتميّزها، ولأن الفيلم الذي نحن بصدد معالجته حافل على مستوى بنيته العميقة بأنساق مضمرة تتعلق برؤية المخرج للأسرة والمجتمع والوطن، فقد كان لابد من التركيز على هذه الأنساق واستحضارها واستنطاقها، في معادلة بسيطة استحضرنها تحت مُسمى "شعرية التفاصيل الصغيرة".
ومن ثمّة فإن هذه التفاصيل وانطلاقاً من جمالياتها المتعددة، فإنها نسجت الفيلم كنص متكامل، مُقيد بروح الطرح وأبعاده المختلفة، وسعت إلى استقراء الفيلم وتفكيك شفراته، باعتبارها ظاهرة ثقافية وجمالية في الآن معاً، يمتزج فيها الواقع بالمتخيل، والذات بالمجتمع، من خلال التركيز على الثنائيات الضدية التي استطاع هذا الفيلم أن يحتويها، والتي من أهمها ثنائية اليمين/ اليسار، الحب / الخيانة، الحاضر / الماضي، الأنا / الآخر، الأصالة / المعاصرة ... إلخ، وبحضور أنساق مضمرة أخرى يمكن اعتبارها إحداثيات شكّلت المعلم الثقافي لهذا الفيلم السينمائي، والتي أهمها الأب/ الابن، وبناء الحلم والتأسيس له، ولأن المشهديّة الثقافية للفيلم، تهتم بكل ما يحيط بالعمل، وتربطه بسياقه وظرفه، كان لحضور المكان والمعمار والزمن ضرورة يمكن من خلالها التنقيب والكشف عن أبعاد ثقافية حواها الفيلم، واستطاع من خلال مظهره السياقي والإيقاعي العام أن يظهر فتنتها ويواريها في نفس الوقت.
استطاع المخرج المغربي المتميز محمد مفتكر في فيلمه "جوق العميين"، الذي يُعد ثاني تجربة إخراجية له في مجال الأفلام الروائية الطويلة، بعد فيلم "البراق" الذي نال عليه جوائز معتبرة، وإشادات من متتبعين للشأن السينمائي المغربي، أن يُثبت بأنه مخرج مقتدر يمتلك أدواته السينمائية ورؤاه الخاصة، وهذا بعد أن طوّع قصة عاشها شخصياً ( في لقاء جمعني بالمخرج كشف بأن الفيلم مستوحى من أحداث حقيقية عاشها في طفولته)، وجعلها حقيقة أمامه، أي أنه حوّل أحلامه وذكرياته إلى حقيقة تتراقص أمامه، وجعل من المُتخيل واقعاً، وعليه فإن رهانه عن نجاح القصة كان مرتفعاً، وثقته بها كبيرة، لأن أيّ شخص في العالم كان ليظن بأن قصته مهمة ومؤثرة وتستحق أن تروى، لكن عندما يتم روايتها عن طريق النصوص السردية مثلاً، أو حتى عن طريق الأفلام، لا تنجح ولا تلقى اهتماماً، لأن هناك خللاً ما في الذائقة الجمالية للمعني آو تضخم في الأنا، وقلة قليلاً فقط نجحت في حكاية قصتها، ومن أكثر المخرجين الذين راهنوا على ذكرياتهم وحياتهم في صناعة أفلامهم هو المخرج الإيطالي الكبير فيديريكو فيللني، الذي جعل من أغلبية إن لم أٌقل كل أفلامه عبارة عن رواية لسيرته الذاتية، وقد نجح في هذا المسعى الذي يُسمى أيضاً "سينما المؤلف"، وقد دخل للعالمية بسببه، وعليه فإن المخرج محمد مفتكر قد راهن على الحصان الرابح، لسلامة ذائقته الجمالية وموضوعيته في اختيار قصته، ومن هنا نطرح السؤال التالي، في أيّ خانة يمكن أن نصنف فيلم "جوق العميين"، هل هو دراما تاريخية، أو فيلم كوميدي، أو سينما المؤلف، أظن بأنه من الصعب فعل هذا، لأن التصنيفات كثيرة، لكن أجمل تصنيف يمكن أن يُحاط بهذا الفيلم هو اللا تصنيف.
تدور القصة في أحد الأحياء الشعبية بالدار البيضاء، حيث يعيش الحسين (أدى الدور يونس ميكري) قائد فرقة موسيقية شعبية برفقة عائلته الكبيرة في أحد البيوت، وهو من الأشخاص الذين يؤيدون الملك المغربي الحسن الثاني، الذي لم يمضي على تبوؤه العرش الملكي سوى سنوات قليلة، والحسين هذا رجل مولع بالفن والموسيقى، حيث انعكس هذا الأمر في بيته الكبير الذي يعج بأفراد العائلة، وأعضاء الفرقة الموسيقية والراقصات، ما جعل الفوضى والصخب وصوت الموسيقى تملأ البيت، هذه الفرقة الموسيقية تتظاهر بالعمى في الكثير من الأحيان من أجل توسيع آفاق إقامة الحفلات، خصوصاً لدى أفراح وأعراس النساء، التي تُنظم من طرف العائلات المغربية المحافظة التي لا يجب أن تختلط بالرجال، أما الابن ميمو (إلياس الجيهاني) الذي يبلغ من العمر إحدى عشرة سنة فهو الآخر منشغل بحب شامة (علية عمامرة) خادمة الجيران، وفي نفس الوقت خائف من ردة فعل أبيه الحسين من خلال نتائجه المدرسية المخيبة للآمال، هذا هو لب القصة ومحورها، ومن خلالها تتفرع خيوط الحكاية لتبنى باقي الأحداث.
اهتم المخرج كثيراً بالتفاصيل الصغيرة، التي يتم إهمالها في الكثير من المخرجين العرب، وهي التفاصيل التي تصنع جمالية الفيلم وتقويّه، ليكون كل تفصيل بمثابة مكعب صغير، عندما يتم تجميعه مع أخرى يصنع فسيفساء، ومن هنا تكمل أهمية كل جزئية، من بينها مثلاً النتائج المخيبة التي تحصل عليها ميمو في المدرسة، لكن عمه (فهد بن شمسي) اليساري المشبع بالفكر الشيوعي الذي يمثله كارل ماركس، يساعده في تزوير النتائج، من خلال الاستعانة بممحاة، ولخلق جمالية أوسع وأقوى يقوم المخرج بخلق نموذج حقيقي لدفتر الامتحان، كي يستحضر كل مشاهد الطفل الذي يسكنه، حيث ورقة النتائج مسطرة ومقسمة إلى خانات، ومقسمة باللون الأحمر، وفي آخرها مصادقة المدرسة وإمضاء المعلم، ليقوم العم بمحو النتيجة العامة لميمو، وقد تكرر الأمر معه، من هنا ازداد تعلق ميمو الطفل بعمه وأصبح بمثابة القدوة، أما القراءة الأخرى فيمكن أن تذهب إلى استصغار اليسار السياسي، وكأن المخرج يقول بأن اليسار يعتمد على الحلول الترقيعية والآنية، ولا يرسم حلولاً دائماً، ولا خطط له للمستقبل، أي أنه بمقدور العم بدل التزوير أن يقوم بتدريس الطفل ميمو، ومن هنا يخلق حلاً جذرياً للمشكلة بدل الترقيع، ناهيك عن تصوير العم المشبع بالشعارات الرنانة بأنه رجل لا دخل مالي له، وهي معاكسة لأهم مبادئ الشيوعية، شخص انتهازي يعتمد على حب امرأة لتمدّه بالمال، مستغلاً في ذلك وسامته، أيّ الشكل بدل الجوهر، ومن جهة أخرى يجعل من الحسين والد ميمو يمينياً، حيث يحب الملك ويوافق على سياساته، ومن بين المشاهد التي تقوي هذا الطرح هو احتفاء الوالد بنتيجة ابنه، حيث يسأل الطفل عن أمنيته المستقبلية فتكون الإجابة بأنه سيصبح ملكاً، يضطرب الأب ويصحّح له بأن هناك ملكاً واحداً وفقط، وبمقدوره أن يصبح طبيب الملك مثلاً.
كما أن هناك العديد من التفاصيل الصغيرة الأخرى التي ساهمت في نجاح الفيلم، مثل نقل ميمو الجمل الغرامية لعمه كما هي، ليعيدها على مسامع شامة حبيبته، اختيار فضاء السطوح ليكون لقاء المحبة، تصوير العم لقبلة ميمو وشامة، اجتماع العائلة حول التلفزيون، وكيفية مشاهدة فيلم، والبهجة التي يخلقها هذا الإجتماع، الخيانة، علاقات الأفراد، ثنائيات الحب والرفض.
وقد صُنع كل هذا من خلال توفيق المخرج في اختياره للممثلين، الذين استخرجوا كل طاقاتهم لجعل هذا الفيلم على ما هو عليه، وعلى رأسهم الراحل محمد بسطاوي، والفنان الكبير يونس ميكري وغيرهم، كما يمكن أن نكتشف بأن هناك تناصاً واضحاً بين "جوق العميين" والعديد من الأعمال، خاصة من خلال سرد الفيلم عن طريق عيون الأطفال، ومما لا شكل فيه بأن هناك استحضاراً لبعض التفاصيل من الفيلم التونسي الشهير "عصفور السطح 1990" لمخرجه فريد بوغدير، مثل المرأة الخرساء التي اكتشفت بأن الجوق ليس به عميان، وهي المرأة الخرساء التي اكتشفت بأن الطفل "نورا" في فيلم "عصفور السطح" ليس طفلاً، تقارب سن الطفلين والتشابه الكبير بينهما حتى في الملامح، وطريقة البناء العام للفيلم، وهذا ليس عيباً بالمطلق، لأن الفن يكمل الفن، وهناك ترابط كبير بين جميع الأفلام، على العموم كان فيلم "جوق العميين" متكاملاً، حيث استثمر في الإنسان والتاريخ والهوية، ويشي بميلاد مخرج كبير، سيكون له شأن كبير في مستقبل السينما العربية.