أيام كثيرة في هذا العالم تُخَصَّصُ للأعياد والمناسبات الثقافية والفنية، ومن هذه الأيام ماهو مخصص لشخصيات بعينها، كإشارة لما قامت به هذه الشخصيات من دور مهم ومؤثر في بناءِ مجتمعات كاملة، وهنا تختار الكثير من البلدان اياماً محددة من السنة تخصصها لعباقرتها ومبدعيها وصانعي الجمال في تاريخها وحاضرها، وهذا شيء مدهش ومثار اعتزاز وفخر لهذه البلدان، ويشير الى ما للإبداع والفن من مكانة وتأثير في نفوس الناس وثقافات الشعوب. الى هنا والمسألة طبيعية جداً، وتكاد تتكرر كل شهر وربما كل اسبوع في هذه المدينة أو تلك المقاطعة أو ذاك البلد. لكن بعض البلدان خَطَتْ خطوات بعيدة في هذا المجال، كما فعلت هولندا التي لها تاريخ واسع وكبير من الجمال والفن، لتقرر أن تكون هذه السنة برمتها هي سنة الفنان موندريان، في إلتِفاتة استثنائية وتقدير كبير من بلد يعرف كيف يُقَدِّرُ أبناءه. نعم هذه السنة بكل شهورها وأيامها في هولندا مخصصة لموندريان، حيث أُقيمت وماتزال تقام الاحتفالات والمناسبات الثقافية والندوات والمعارض وحتى الأغاني والبرامج التلفزيونية وإصدار الكتب وإقامة الحفلات في الهواء الطلق، وذلك كله احتفاءً بواحد من اكثر المجددين في عالم الرسم.
أُشاهدُ التلفزيون فأرى واحدة من المغنيات وكذلك الكورال الذي يردد خلفها وقد ارتدوا جميعاً ملابس طُبِعَتْ عليها لوحات موندريان. أَطِلُّ من النافذة لتفاجئني زوارق رسمت على أشرعتها اعمالاً لموندريان وهي تتبختر فوق مياه النهر المحاذي لمرسمي. يظهر موسيقي في احدى الحفلات، ليعلن بأن مقطوعته التي سنسمعها هي من وحي اعمال موندريان! أَتَعَجَّبُ وافرحُ في ذات الوقت، مما فعله بالناس هذا الفنان المولود في مدينة امرسفورد وسط هولندا! فهؤلاء لم يكتفوا بمحبته وعشق اعماله فقط، بل انهم يقدسون لوحاته بالفعل، لوحاته ذات الخطوط المتعاكسة والمربعات صريحة اللون. نعم انه الفنان الذي دفع التجريد الى أقصى حد يمكن ان يصل اليه.
يعد تاريخ الفن بيت موندريان ( ١٨٧٢-١٩٤٤) كواحد من اهم ثلاثة فنانين في تاريخ هولندا، إضافة الى ريمبرانت وفنسنت فان غوخ، حيث عَمَلَ هذا الفنان بجد ليطور نوع من الرسم لم يصل اليه أحد، هو الذي جرَّدَ اشكاله والمناظر الطبيعية التي كان يرسمها ليلقيها بعيداً على حافة التجريد الهندسي، سنوات وهو يُقَلِّمُ أشجاره ويزيل عنها الأغصان الزائدة، ليحيلها الى بضعة خطوط متقاطعة، ثم يسير بمغامرته اكثر ليجعل هذه الخطوط تتحول الى مربعات صغيرة ملونة وشرائط تشير الى الإحساس بالشكل، وتحرك المشاعر من خلال تداخلها مع بعضها بطريقة غير مألوفة. وبهذه المناسبة، يقام الآن معرض كبير لموندريان على قاعات متحف لاهاي، حيث يضم نحو ثلاثمئة لوحة من اللوحات التي أنجزها في هولندا وباريس ونيويورك، ليطلع الناس من خلالها على مراحل تطور اعماله وتقنياته ومعالجاته ورؤيته الفنية وكذلك فلسفته التي غيَّرَ من خلالها نظرتنا الى ماهية الرسم الحديث.
مَرَّ الفنان موندريان بثلاث مراحل في حياته، حيث رسم في بداياته لوحات تمثل نساء جميلات ومناظر طبيعية في مدينة امستردام وضواحيها. وفِي لحظة مهمة من حياته، إطَّلَعَ سنة ١٩٠٦ على اول معرض لفان غوخ يقام في هولندا وتأثر بألوانه وتقنياته، ونرى ذلك واضحاً في لوحته (منظر طبيعي في الليل) والتي رسمها تحت تأثير لوحة فنسنت فان غوخ (ليلة مرصعة بالنجوم)، بعد ذلك سافر الى باريس وتأثر بالتكعيبية التي حاول ان يُبَسِّطُها ويلغي منها الكثير من التفاصيل، لكنه مالبث أن عاد الـى هولندا بسبب مرض أبيه، وهناك رسم سلسلة رائعة من اللوحات التي تمثل الكنائس بشكل تجريدي، ليعود من جديد سنة ١٩١٩ الى باريس حيث مرسمه القديم. وبحلول سنة ١٩٣٨ غادر باريس بسبب ظهور النازية، وإتَّجَهَ نحو لندن حيث صديقه الفنان بن نيكلسون، لكن القنابل لاحقته هناك، فغادر سنة ١٩٤٠ الى نيويورك، حيث ظهرت على لوحاته أشكال مربعات ملونة تتداخل مع بعضها بطريقة أعادَ من خلالها تشكيل هذه المدينة وبناياتها وإيقاعها السريع.
مربعات موندريان
[post-views]
نشر في: 30 يونيو, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...