اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > مسرح > صورة بدري حسون فريد

صورة بدري حسون فريد

نشر في: 4 يوليو, 2017: 12:01 ص

أحالتني الصورة الأخيرة لفنان المسرح الكبير بدري حسون فريد، وهو  على فراش المرض، وحيداً غريباً حائراً،  إلى سنوات كان فيها هذا الفنان  والاب والمعلم الكبير، ملء السمع والبصر، حيث امتدت تخوم دولته الإبداعية إلى كل أطياف المجتمع العراقي ل

أحالتني الصورة الأخيرة لفنان المسرح الكبير بدري حسون فريد، وهو  على فراش المرض، وحيداً غريباً حائراً،  إلى سنوات كان فيها هذا الفنان  والاب والمعلم الكبير، ملء السمع والبصر، حيث امتدت تخوم دولته الإبداعية إلى كل أطياف المجتمع العراقي لتجده وقد استقر رمزاً ثقافياً يدين له العراقيون جميعاً بالحب والامتنان.  

انظر إلى صورة بدري حسون فريد حزيناً، فألمح في ملامح وجهه المتعب الحيرة والآسى، فالرجل الذي عشق درابين الكاظمية وأزقتها، مثلما احب بنايات الوزيرية، ينام اليوم في أحد مستشفيات اربيل وحيداً، وهو يفتش بعينيه عن مجتمع أليف وزمن سوي يعترف بالإنسان ،  ونلمح ملامح وجهه المحبب إلى النفس فنقرأ فيه رحلة التعب والمواجهة ممتزجة بأفراح ومسرات الماضي.. ونتخيل صوته الممزوج بالعذوبة وهو يهمس في اذن عبد القادر بيك – خليل شوقي - في الرائعة التلفزيونية النسر وعيون المدينة: " قدوري  هاي الدنية مترجع ليوره ".
فيجيبه الخال خليل شوقي : الفات مات،  انساه اسماعيل.
يحمل بدري حسون فريد سنواته التي قاربت التسعين،  بعيداً  عن بغداد التي عشقها،  ترتجف اليد وتظل الذاكرة ترسم لنا صورة لصبي صغير يتجول في شوارع الكاظمية يلتقي آنذاك بصديق عمره ومعلمه فيما بعد جعفر السعدي، حيث يصطادون سوياً حكايات العراقيين وأحلامهم وقلقهم ونرى بغداد كلما طلع علينا بابا جعفر وهو يقول، عجيب أمور غريب قضية، وحين  يظهر  بدري حسون بقامته الفارعة من على شاشة التلفزيون ونشم عبقها حين يهمس اسماعيل الجلبي :  " اني ما اريد شي بهاي الدنيه، بس اعيش ايامي اللي باكوها مني"  ونحس نبضها في ملامح الفلاح في مسرحية صوت الأرض، ونرى تضاريسها في عيون  بطل العنبر رقم 6 لتشيخوف.  
*******
بدري حسون فريد فنان جاهد بعزم من اجل تقديم تعريف مرئي لفلسفته الخاصة بالمسرح. ومن الصعب اعتبار الوسائل  التي استخدمها في نشر هذه الفلسفة وسائل تقنية فقط، بل هي في المقام الأول وسائل معرفية وجمالية، وهو في كل هذا اثبت أن بإمكان الفنان سبر اغوار  العلاقة بين الوسائل البصرية والمعرفية بالمسرح بدربة ودراية ووعي اجتماعي وفكري متميز.
فنان يمنح أعماله المسرحية تكوينات خاصة ربما تبدو غريبة أحياناً على عين المشاهد لكنها تحمل في داخلها مفاجأة تنطوي على مغامرة جديدة في المسرح. هو واحد من القلة الذين يراهنون على قدراتهم الإخراجية، لاطمئنانه من الخبرة التي يمتلكها ولذلك هو يعتقد بأن أية مسرحية كائناً من يكون كاتبها هي في متناول قدراته. وكان لرهانه سلسلة طويلة من الأعمال الناجحة مع طلبة المسرح، أو مع الفرقة القومية للتمثيل.. بدري حسون فريد فنان يقف مؤرخو المسرح بخشوع أمام الحصيلة الفنية المزدحمة التي قدمها والتي ضمت أشهى الأفكار وأغرب وجهات النظر صارعها بشغف على خشبة المسرح.
بدري حسون فريد.. سبعون  عاماً من الجهد والبحث والمتابعة والنشاط على خشبة المسرح.. فنان بقدر ما يحرص على عملية الممازجة بين رؤاه الإبداعية وبين أفكار النص المسرحي، فإنه يحرص في الوقت نفسه على أن يشد وتائر قلبه في أضلع خشبة المسرح العراقي.. هو ابن العراق المأخوذ بجماله. لم ينظر إلى المسرح كمفردة مجردة أو حالة عابرة وإنما نظر إليه باعتباره جزءاً من عملية بناء هذا المجتمع. الأستاذ وهو اليوم على فراش المرض  يرغمنا على التأمل ملياً في أعماله التي تكتسب تنوعها وخصوصيتها بشمولية الفنان واتساع نظرته وقدرته على الإفصاح عن دواخله الإنسانية بشاعرية متفردة ومتوقدة .
*******
كانت المرة الأولى التي التقي فيها بدري حسون فريد  في بداية الثمانينات، يومها  نشرت في صحيفة الجمهورية رداً على مقالة كتبها الفنان الكبير عن الدراما العراقية، وكأي شاب متحمس وقليل الخبرة والمعرفة ، سَخرت من وجهة نظر المعلم، كنت حينها أهم بدخول ساحة كلية الفنون الجميلة، فإذا أنا أجد نفسي امام بدري الذهبي بقامته الفارعة ومعطفة البني وقبعته التي تبرز من جوانبها شعيرات شقراء، كنت اسمع عنه قصصاً عجيبة عن رجل صارم وحاد ، يرى العالم من خلال المسرح فقط، فيحول الحياة الى مسرحية تتابع مشاهدها مشهداً وراء آخر بدقة متناهية ونظام صارم، وقبل أن افتح فمي بالكلام، اطبق بكفه الغليظة على معصمي وأخذني الى  غرفته في الكلية، حيث كان آنذاك يرأس قسم الفنون المسرحية، لأجد نفسي  استمع الى شخصية ساحرة امتزجت فيها الرؤية الانسانية، مع جمالية فنية متميزة وهو يحاول أن يصحح خطواتي الأولى في كتابة النقد الفني، ويعلمني درساً في كيفية مخاطبة القارئ بلغة مفهومة  ذات دلالات واضحة.
 كانت هذه الجلسة بداية لعلاقة بين استاذ وتلميذه امتدت لأكثر من ثلاثة عقود  استطعت من خلالها أن أسجل الكثير من الملاحظات عن عمل بدري حسون فريد  المسرحي وأن اجري معه اكثر من حوار، وأن اتعرف على الملامح الحقيقية لبدري حسون فريد، الممثل والمخرج وصانع البهجة  الذي يمتلك نظرية واضحة المعالم في علم جمال المسرح، وفي مواجهة النص المسرحي، وفن المخرج، وفن اداء الممثل، والفنون التشكيلية  التي تتضافر في ابداع الاطار المكاني للمسرحية، وفنون الموسيقى، بمعنى آخر في كل الفنون  التي تعيد تأثيث الفراغ المسرحي .
يُعلم ذلك كل تلامذته سواء في قاعات الدرس، أو على خشبات المسارح ، لا فرق بين طالب يحضر دروس الاستاذ، وممثل يتعاون معه في اتباع عرض مسرحي .
في واحدة من المتع التي عشتها مع الاستاذ، هي التحضيرات التي كان يقوم بها لإعداد قصة تشيخوف الشهيرة عنبر رقم 6 والتي قدمها مع طلبته على مسرح كلية الفنون الجميلة بداية التسعينيات، آنذاك انتبهت للحوار الذي  يجريه الاستاذ مع طلبته المشاركين في المسرحية، والذي نكتشف من خلاله نظريته المتكاملة في الدراما، وفي اهمية حوار الدراما المسرحية مع المتفرج، واكتشف أن الأمر لايتوقف عند الشكل المسرحي ـ لكنه ينزل الى التفاصيل ، احساسه بالحرف اللغوي، بالكلمة، بموسيقى الجملة، بالحركة الداخلية التي ستنفجر بحركة ابداعية على خشبة المسرح، بالشخصية الفنية ومقوماتها، بالعلاقة الجدلية بين مجموع الشخصيات، بينها وبين المتفرج.
*******
سألت الاستاذ ذات يوم :  ماذا تريد من المسرح ؟
*  أريد مسرحاً مختلفاً .. مسرحاً بهوية جديدة تجمع بين المتعة والفكر، فأنا لا أرفض جانب التسلية في المسرحية، لكني ارى أن الترفيه المصحوب بالفكر انفع للمشاهد، وقد اثبتت التجربة التاريخية، أن المسرح رفيق الانسان، وفي اعتقادي أنه لن يموت، قديماً كنا نتصور أن الاغريق هم المصدر الأساس للمسرح،  لكننا نرى الآن المسرح في كل مكان في العالم يعتمد على التجارب الذاتية للشعوب، ولهذا أنا أرى أن المجتمع العراقي لديه مقومات مسرح عراقي متميز يقدم التفاصيل الصغيرة التي تمنحنا الأفكار أكثر مما تمنحنا المتعة، مسرحاً يقدم لنا الجمال والقبح ورائحة العالم والأحلام والأفكار.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المكتبة المسرحية: ثلاثة أعمال مسرحية للكاتب أحمد إبراهيم الدسوقي

سلطة المسرح ومسرح السلطة في العراق

المخرج المسرحي وخلفيته الثقافية

نقد الرياء الديني في مسرحية طرطوف لموليير

حول مسرحية تشيخوف الكوميدية (الدب)

مقالات ذات صلة

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته
مسرح

مسرحية رائحة حرب.. كايوسية التضاد بين الحرب ورائحته

فاتن حسين ناجي بين المسرح الوطني العراقي ومهرجان الهيئة العربية للمسرح في تونس ومسرح القاهرة التجريبي يجوب معاً مثال غازي مؤلفاً وعماد محمد مخرجاً ليقدموا صورة للحروب وماتضمره من تضادات وكايوسية تخلق أنساق الفوضوية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram