كالعادة سنوياً قادتني قدماي إلى حانة إيرلندية، "يقظة فينيجيان" إحدى سلسلة حانات إيرليندية تحمل الإسم ذاته في معظم مدن أوروبا - حيث واظبت الاحتفاء بيوم السادس عشر من حزيران لعام 1904، يوم جويس ويوليسيس، عادة مارستها منذ أيام إقامتي في مدريد، حيث امتلكت صديقة تهيم بجويس لفحشه!وبعيداً عن الأندلسية الفاحشة، فإن هذا اليوم من حزيران هو أصلاً يوم ليوبولد بلوم، بطل رواية يوليسيس، حيث بدأ التجوال عبر أزقة دبلن منذ الثامنة صباحاً وحتى الثالثة ظهراً من اليوم نفسه، مثلما هو يوم الفنان الشاب ستيفان ديداليوس الذي سيلتقي ببلوم، والمرأة الممتلئة الخليعة، التي سيزورانها، مولي، الذين يبدو أنهم يعيدون حياتهم في هذا اليوم بقوة أكثر، مثلهم مثل الخيالات التي تستعيد نفسها سنوياً في تاريخ محدد، في مكان معين، ومثلما هي الحال مع شكسبير، مع سرفانتيس، أو مع دانتي، من الممكن التعلم من جويس تقريباً كل دروس الحياة والأدب، لكنَّ هناك درساً واحداً يهمني هنا: ذلك أنه أمر باطل الإدعاء بأن نزوع الكاتب للكوزموزبوليتية يتعارض مع بقاء الكاتب أميناً لمكانه الأول - مدينته، لكي لا نقول بلاده - فليس البقاء في المكان - رغم الاضطهاد الذي يعيشه المرء - هو شرط الكتابة الوحيد. على العكس، يُفضل تنفس هواء آخر. "الإقامة الجبرية في المكان" ليست شرط الإبداع، وكذبة كبيرة تلك التي تريد تعليمنا أن هناك انقطاعاً بين "البقاء أميناً للتقاليد" وبين نزعة الكاتب الكوزموزبوليتية.جيمس جويس، كوزموبوليتي يتحدث لغات شتى، منفي أبدي، مهاجر لمدينة ولادته وبلاده الضيقة الأفق التي كانت تغلي بالقيم الإقليمية والقومية، كان عليه اختراع هواءه الخاص، كتب تتنفس أجواء جميلة و"طائشة" - بعرف التقليديين - لكي تكون هذه الكتب كل شيء ولكل البشر؛ جويس قضى حياته يكتب عن ناس دبلن وشوارعها، تلك المدينة الذكورية المحافظة والغامضة بالنسبة للكثيرين، المدينة التي حلّ عنها جويس حزام العفّة وسلط عليها وعلى أهلها ضوءاً فانطازياً، تشكل بالتدريج من الذاكرة والمسافة، معلباً في ماكنة الزمان، ماكنة الكاتب جويس، مثل "ريميني" الإيطالية، تلك المدينة المعلبة التي ظل فيليني محتفظاً بها تحت إبطه لسنوات طويلة، يحملها ويبثها بوجل هنا وهناك في افلامه الكثيرة كأنه تعمد عمل تلك البروفات متهيئاً لآخر أفلامه الخاص عنها، قبل وفاته، ريميني التي لم تحتضنه، لم تعترف به كفنان، وتعلم منها الدرس الذي يتعلمه كل فنان شاب: البحث عن مملكة الفن خارج اسوار المدينة التي وُلد فيها، ثم العودة إليها تباعاً، عن طريق الذاكرة والخيال.وبالذات عن تلك المدينة - دبلن - التي لم يستطع الكتابة والتنفس فيها، صنع جويس أدباً عظيماً. في حياته لم يمنحه مواطنوه أصحاب العقل التجاري، الانتباه الذي منحوه له بعد موته، مثل مواطني وليم فوكنر الذين لم يزعجوا أنفسهم حتى بإعلان ولو علامة واحدة للحداد في يوم وفاته أو مثل مواطني لوركا الذين وبعد ثمانية عقود من موته منحوا للمدينة التي قتلته ما يكفي من المبالغ أكثر من تلك التي حصل عليها على مدى سنوات عمره الثماني والثلاثين التي عاشها، لتأسيس مؤسسة بإسمه، مسموح لها قول كل شيء، باستثناء أن تقول قتله الفاشيون أو مثل مواطني السياب الذين لم يحصل منهم على الاعتراف الكافي، بل أذلوه، تمثاله على كورنيش البصرة، لم ينظفونه حتى من براز الطيور، أما قبره الفقير المهمل فلولا عناية الشاب خالد عبدالعزيز المشرف على مقبرة الحسن البصري في الزبير لكان سوّاه الزمن مع الأرض!الموت بدون قيد أو شرط - كما يبدو - هو الشرط الوحيد لكي يكف المتمرد على التقليدية وضيق الأفق، أن يكون ملعوناً من قبل مواطنيه، بل يصبخ إبناً بارّاً وفخراً قومياً. جويس الذي مقت بالتساوي السيطرة الإنكليزية لبلده مثلما كره الانغلاق في صفوف الكهنة والظلاميين من القوميين الإيرلنديين، أنه الآن واحد من الذين يُفتخر بهم في انكلترا وايرلندا وفي الآداب الإنكليزية.وأنا أحتسي بيرة "جينيسيس" الإيرلندية في حانة "يقظة فينيجنيان"، حيث أتذكر جويس ورفاقه الكوزموبوليتيين، كان لابد لي أيضاً وأن أتذكر مساكين النقد وضيقي الأفق عندنا وفي العالم، تذكر أولئك الأقزام الذين يمنحون المرء الرغبة القوية بأن يرحل، إلى دبلن أخرى، إلى بصرة أخرى، إلى غرناطة أخرى، إلى كل المدن تلك التي لا توجد على الخارطة، المدن التي يؤسسها أبناؤها المبدعون - الملعونون والهاربون من خدمة العلم - في الأراضي البكر للذاكرة!
يوم جيمس جويس ورفاقه الكوزموبوليتيين
[post-views]
نشر في: 4 يوليو, 2017: 09:01 م