TOP

جريدة المدى > عام > الكتابة والأقدار القاسية

الكتابة والأقدار القاسية

نشر في: 9 يوليو, 2017: 12:01 ص

أعجب أحياناً من اكبار عمل واهتمام بالغ به ولا أرى ذلك العمل جديراً بذلك الاكبار والاعجاب. اتهم نفسي بالسهو أو باللا فهم ثم اعود لقراءته، فإذا الحكم نفسه ولا أراني مخطئاً. النقد هو الذي يُكبِره ويجلهُ. نحن في قراءته وبعد القراءة لا نراه كما هم يرون لأ

أعجب أحياناً من اكبار عمل واهتمام بالغ به ولا أرى ذلك العمل جديراً بذلك الاكبار والاعجاب. اتهم نفسي بالسهو أو باللا فهم ثم اعود لقراءته، فإذا الحكم نفسه ولا أراني مخطئاً. النقد هو الذي يُكبِره ويجلهُ. نحن في قراءته وبعد القراءة لا نراه كما هم يرون لأننا قراء وقراءٌ فقط بلا انحياز للنص أو لكاتبه. لكن احياناً في دراسة لكتاب آخر وقراءة ثانية متأنية له نجد في الكتاب ما فاتنا ويأخذنا الامتياز فيه الى الرضا. القراءة الثانية للنص الثاني ارتنا القيم الكامنة والامتياز الذي ما كنا نراه لولا هذه الدراسة التي اسعفتنا فنحن مع الناقد أو الدارس ونحن مع الكاتب و الكتاب.

موقفنا بعد قراءة أيّ دراسة ليس هو الذي قبلها. فعلينا اولاً الاقرار بقصور قراءتنا احياناً وبحدود الرؤية التي كانت. وهو هذا مجد الدراسات الجادة الفنية منها والتحليلية. فثمة تخصص وثقافة اوسع افادتنا. وسعة رؤية ومتابعة للجذور منحتا العمل القيمة الجديدة. النقد القاصر لا يفعل ذلك ولا تفعله القراءة القاصرة. النقد القاصر يصف مسرعاً مثلما يكون قد قرأ مسرعاً. وفي الحال الاسوء تختار الجمل والاوصاف مزاجيةٌ وترضيات أو ضغائن أو ادعاءات معرفة. هذه مثالب لها فعل الإضرار بالمقروء أو بالمكتوب عنه. ويهون هذا بإزاء اضرارها واساءتها للقيم الادبية . هي ما نفعت نفعاً ذا شأن ولكنها اضرت ضرراً قد يطال نماذج أخرى ويتكرر. والخاسر هو الدرس الاكاديمي والنقد الجاد.
أردت هذه المقدمة أن تعينني على تساؤل ذي صلة بأهمية العمل، بدوام سعته وجوهريته. الاعمال المهمة تعتمد عادةً على امتيازين، فني تعبيري وفكري. قد يبدو هذا بسيطاً غير مهم لكن تتكشف اهميته حين تساعدنا قراءة متخصصة أو فهم يعتمد معرفةً ابعد. هكذا قراءة متخصصة تساعدنا في رؤية ذلكما الامتيازين.فما هو المشترك الذي بين القارئ بعد الكشف، ومعه الناقد الجليل، وبين العمل الادبي الذي حصلت الاشادة به ؟ من قراءاتي للروايات والمسرح والاشعار وحتى من متابعاتي لمتاحف الفن، انتهيت الى أن الحضور الاكثر جلالاً واهتماماً وحضوراً في الازمنة، هو لذلك العمل الذي يمتلك مدى انسانياً أوسع. الذي يرينا ببراعة الحال الانساني، بهجته، انتظاره، سعيه للوصول أو محنته في العيش.
الاساطير الاغريقية عملت الكثير لكشف حيرة الانسان في الكون، محنتهُ في الحياة، عذابات الوصول الى الحلم أو الامنية أو المرغوب فيه. التوق للسلامة والتوق للوصول ظاهرتان نادراً ما يخلو منهما عمل من الاعمال المجيدة التي قرأناها فصنعتا مقابل ذلك آلهة وحركتهم باتجاهات تريدها البشرية لتنجوا أو لتصل. الدراسة الذكية والتي تعتمد ثقافةً ساعدتنا في رؤية ذلك ومنحتنا حسَّ المشاركة.
والكتابات المهمة اليوم هي تلك التي تتحدث، تصور ما لم تُفلح الحضارة في تجنبه عبر قرون من الالهام. هي سعت وتسعى لكشف رغبات الانسان، توقه ليتحرر من الخوف والعوز وليُتاح له رضا وسلامة عيش. ما عاد الفن الأدبي، وضمنه الفكر الادبي، يريد ترك الانسان تتحكم به الاقدار القاسية.
اردت التفكير بما كان لكي نقول شيئاً بما لنا أو علينا هذا اليوم. اساطير الاغريق، مسرحياتهم واشعارهم لم تستثن موضوعاً من موضوعات حياتهم آنذاك. فهناك آلهة احبت ورغبت وانتقمت وانتصرت الى من طلب عونها أو تقرب اليها. وانتقلت من مكان الى آخر لتعيد حقاً أو لتثأر انتقاماً أو لتنال. وبطلات وابطال الاساطير أحبوا ومارسوا الجنس، برضا أو باحتيال ، أو اغتصبوا كما رغبوا في غير الاعتيادي المألوف، وهذه كما هو معلوم  نزعات واحتياجات واعمال بشرية. "باسيفي" مارست الجنس مع ثور. ابولو مارس الجنس مع ليدا باحتيال، جاءها بصورة طائر بجع!
مقابل هذا، الكتابات الحديثة تحدثت عن خيبة المسعى ومصادرة نضال الناس وتعبهم وضياع الفرد وجرائم السطو والاغتصاب والغزو المسلح واستباحة القارات والمدن. كما تغلغلت كتابات أخرى الى مخفيات الناس وكشفت ما لا ندري ولا نتوقع!
بين الاساطير الاغريقية والكتابات الحديثة تتوسط مسرحيات شكسبير: السلطة، الجشع، الطمع بالسلطان، فرط الحلم، والحيرة في مفترق الطرق. إذاً يجب أن نعيش حيث نكون وبين اقدار غيبية غامضة أو ارضية واضحة. وهو انسان اليوم في نضاله ضد الطبيعة وكوارثها وظروف العيش ومواجهاته الصعبة مختلفة الاشكال والمصادر. الكاتب المحترم لا ينظر للحياة كعمل مسلٍّ، كما يقول فورستر، شرط أن يكون على دراية اجتماعية ويمتلك فكراً متبصراً يمنح العمل امتيازه. وبلا فن وبراعة تعبير، لا فن ولا امتياز. نحتاج الى ثقافة جديدة لنكتب جديداً ونحتاج الى شعور بالمسؤولية الفكرية والاخلاقية معاً. بغيرهما لا تنتظر مجداً من أي عمل ادبي والزهو هنا لا معنى له لأنه يفتقد القاعدة الثقافية ويفتقد المسؤولية الاخلاقية ويفتقد العمل الجاد.
من بين كتب الأدب قامت القصائد العظيمة والروايات الانسانية بدور كبير لا في كشف حياة الناس وكيف يفكرون ويشعرون حسب، لكنها أيضاً في اختيار  زاوية النظر أو في اختيار الفعل ورد الفعل، سرّبت لنا، ومن غير أن ندري، اخلاقيةً تحتاج لها ارواحنا، ارواحنا التي اتعبتها الحياة في الكثير مما فيها. الطريق الذي تسلكه الاخلاقية في الرواية والتي تدب ببطء بين سطورها، هو طريقنا الاقصر للوصول الى اخلاقية صعب الوصول لها في الحياة. في الحياة  نحتاج لكي نحقق ذلك الى شروط مثالية. في التجارب العملية، في المعايشة، اشتباك قيم واشتباك مشاعر. الادب وحده قادر على استخلاص الاثر الاخلاقي وتقريبه الينا. فنحن نتلمسه في القراءة لا في خوض التجربة. هناك، اعني في التجربة، لا يأتينا صافياً كما في القراءة. لكن هذا التاثير في الكتابة لا يلامسنا الا اذا كان الأدب عظيماً. وأيضاً الا اذا كنا نحن راغبين فيه. ليس نزهةً هو الادب ولا هو تسلية. هو منقذنا وهو نصيرنا قبل وبعد مواجهة الاقدار القاسية، شرط العيش الأبدي..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

محمد جبير: اهتمامي بالرواية هو بسبب الحبّ الصافي لعروس الأجناس الأدبية

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

نص ونقد.. العبور والانغلاق: قراءة في قصيدة للشاعر زعيم نصّار

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

مقالات ذات صلة

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه
عام

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

كه يلان محمد الرسائل التي خطّها المشاهيرُ تضمُّ مُعطياتٍ قد تكملُ جوانبَ من مشروعهم الإبداعي وتكشفُ طقوسَهم في الكتابة ورؤيتَهم لما يجبُ أن يتصفُ به المبدعُ في حياته ومساره الفكري ومواقفه الإنسانية، كما أنَّ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram