TOP

جريدة المدى > عام > أبداً لا تتشابه القصص

أبداً لا تتشابه القصص

نشر في: 16 يوليو, 2017: 12:01 ص

حالنا، حالُ أبطالِ روايات غير مُتْقَنة التأليف ولكن زاخرة بالعواطف والآمال والانكسارات وبالتوهج الذي ينطفئ ويصعد مشتعلاً حتى تهطل البوابة فنغمض أعيننا على ما لم يكتمل أو ما لم يأتِ. كنت ليلة الجمعة منعزلاً، عادتي حين انتظر برق الله. مستقراً، كأن أبدا

حالنا، حالُ أبطالِ روايات غير مُتْقَنة التأليف ولكن زاخرة بالعواطف والآمال والانكسارات وبالتوهج الذي ينطفئ ويصعد مشتعلاً حتى تهطل البوابة فنغمض أعيننا على ما لم يكتمل أو ما لم يأتِ. كنت ليلة الجمعة منعزلاً، عادتي حين انتظر برق الله. مستقراً، كأن أبداً وفي حال اتصلت روحي وذاكرتي بكل ارواح الروايات التي قرأت والقصائد وابطال التراجيديا، بالضائعين في العالم، يعرفهم التاريخ وتنقل اخبارهم الكتب ولا وجود لهم! انتبهت لأسأل نفسي: انا واحد من أولئك، وجود مخفي، منسيّ، لا يُرى، لا يعرفه أحد. هم يعرفون شبيهاً، سأترك اوراقاً مكتوبة قد يجد فيها ضائع ما يسليه حتى يجد الطريق فيرميها في موقد أو يتصدق بها على ضائع آخر.

احساسي اليوم كان احساساً شخصياً، احساس فردٍ معزول، احساساً صلباً أكاد ألمسه. هو اني في عالم لا صلة لي به. وضائع تماماً واني ، وهنا يطفح الوجع، اضعتُ من كان يمكن أن ينقذني من الضياع..فليس صدفة أن ادخل المبنى، في عملي الجديد يومذاك، وفي غرفة خافتة الضوء اقف بمزيج من الدهشة، من احترام الحدث، من الفرح الخائف، من شعور بأني أُفارق ذاتي الأولى وأتحرّك كياناً اسطورياً في جو حقيقته – حلم.
ساكنة كانت، عاشقة من مسرح اغريقي بقيت في شحوب عالمها تنتظر. فجر بكر على فضاء الغرفة وبزغ بنصف اشراق وجهها المُلْغِزِ الشهي الذي كلٌّ يحسّ وراءه خطاباً يعنيه. هي لا تسمح لك بالكشف اكثر وتشلَكَ عن أن تغادر!
انتهى يوم الصدمة الناعمة . اليوم الذي رأيت ما اضاعته ارواح كثيرة قبلي. هي دقائقُ غرابةٍ لأتمنى، لأرغب، لاشتعل واظل مشتعلاً ولا يرى شعلتي احد. هي وحدها، بحكم الخبرة، ادركت ان عود ثقاب مشتعل وقع في الغابة!
توزّعت روحي، بمثل هيام، على العمل على تلمس المخفي على قراءة ما يجري ، ما اظن ولا اصدّق، اصدق ولا يقين. تجربة حب كاسحة هي المتحكمة فيها. هي تعرف النهايات. خبرة التاريخ وبروق التجارب وراءها. لاعترف، معه روح متوحشة توقاً الى الاكثر وجذابة مثيرة وقد تقتل! لم اكن أرى إلا هي، إلاّ هي. كل شيء خارج الحياة. هذه حياة اخرى فيها اثنان مثل شعلتين واحدة ساكنة بجمالها الازلي والثانية تزداد ارتعاشاً لا تدري متى تنطفئ !
هكذا وهرقت عمراً وطاقة واشتباكات وغيرة هائجة وخدمات، وبدأت أُلاحق ما ينتظر الثأر مني. ما هذا ؟ صدمة اولى. صدمة ثانية. ثالثة بدأت الاسماء مثل رؤوس رماح صدئة مفزعة تطلع حولي، هي مثل نجوم خائنة وتختفي. هي الخديعة التي تشعل الحب وتستبسل انت لكي لاتكون. وهي المشوقة التي تسطع من وراء جلدها الرغبات النارية، تحرف الشك عن حواسي كلها. أظل وجمالها المستعر، يفيض عليَّ غمْرُ اللذائذ الهائجة، فأشب لآخذ هواءً طلقاً من الدنيا واعود لا اريد افارق الارتعاش بين الموت والحياة.
الحب لا حدود له. لا فلسفة له. الحب لا يعرفه أحد قبل اكتمال التجربة وليس غير السقوط في الوهم الاجمل والاكثر اضاءةً وجذباً .. والآن هي هذه حقيقته:
وقفت أمامي برضاها الجميل بالنبالة التي فقدها العالم، بسحر الازمنة التي عبرت: "انتَ. كريم جوهرك. ستظل ضائعاً، خطؤك الذي لا يفارقك انك ، لا تفهم الارواح. الروح هائمة عطشى ابداً ترف على كل ماء عذب لتطفئ النار التي اشتعلت فيها. هي ماء عذب.عذوبته قد تقتلك مرارة!"
خبيرات الحب يختزنّ الصيد في حمّى وهو بحاجة للحب لا يحتمل، الجذب يخضه، ولكن سيُهمل بعد اشتعال جديد وماء عذب. فهل نخشى الحب، نضربه على رأسه كأفعوان ساحر، ونبعد عن الانكسار الصعب والخيبة أم نرتضي به موجعاً وتقول: لإسعاده اكثر؟
القفْرُ صعب. وليس لنا غير الرضا!
فالحب يظل حاجتك القصوى، يظل خسرانه فاجعاً.. تلك التي غابت منذ عشرين سنة، لم تغبْ! لا هي غاضبة ولا أنا. لا اشارة منها ولا اشارة منى. الصمت يحمي جلال الحب . لكن القطيعة مفازة نسيان ظننت اني غرقت فيها الى الابد. لكن الليلة يفرسُني حنين وحشي، انا في قفص يحترق. ماذا أفعل؟ عالم حجري، يابس لا يعنيني. ضجيج وجدران ومركبات ولا معنى. روحي شبّتْ تطلب النافذة تمنحني نفساً حراً، ريّاً، أيّاً يطفئ..
قلت لالتقف قصة حب، عشقاً جنونياً انتهي غائباً فيه واخمد مثله. لكن مهما كثرت قصص الحب، لن تتشابه! حبكَ ليس حب غيرك. هو بعيد عنه لا يعرفه. كل حب فريداً ينهض من رماد الكون ووحده في الكون يشتعل ووحده يبقى قصةً غريبةً تُروى. من يدري قد تكون هي الآن مثلي وتطلب حباً كان ...
لو بقيتِ، لكان لي سند في الوحشة، رفيقاً للسلوى، وعزاء على حياة نخسرها ونحن ننحدر لا ادري إلى اين. كل منا، انتِ وأنا، ننحدر الى مكان. يالطيفكِ الشمسي في هذا الليل. هل انا يَقظِ لأقول كلاماً في الكون الفارغ لايسمعه احد ؟ غيابكِ خسارة كبرى. انا أواجه المجهول وحدي وأنتِ هناك بانتظار اعزل سنده مشكوكٌ فيه. الغيم وحده يمشي وانا متوقف عيناي ضائعتان والكون كبير. ياللقاءات الضاحكة. ياللقبلات تتوالى، تتدافع ، والتي تنتهي بصراخ الفرح! .
يكفهر القلب الآن من الفقد. وهناك بعيداً عني، سمعتُ غصنها ينكسر وخفق اجنحة ثم صمت. هذا الفجر، هو ذاك الفجر لا انساه. الفجر الذي كان بعد انكسار الدورق، يمتد عليك مثل غلالة الآلهة الشاحبة وانتِ نصف ميتة من التجربة. لكن دقائق وتنهضين وبقيةُ نارِ الملائكة تومض في حدقتيك وكأنْ ظمأً جديداً ابتدأ !
انا لا اكتب شعراً. انا اتحدث عنكِ بعد عشرين عاماً
آهً ، ايتها البعيدة، هذه الخطفة النارية الليلةَ، تنتمي لاشتعال قديم عرفته العصور. توهجتْ هذه الساعة تحت جلد شيخوختي وبين ارتعاش يدَي والخفق المتسارع كما لاودِّع أو لاصِل. هو حب توحش في الهجر، يفرس ما ظل في ذاكرتي. اصابع يديّ ساخنة وشفتاي اللتان اهرقتا قُبَلاً حتّى يبستا، هما الآن منفرجتان بفقر لاستقبال قطرات الشفاء الاخيرة، آخر ما ظل لي من رحيق. ما الذي تبقى من الاشتباك وأي شيء لم نقله ونحن نلتقي، ونحن نفترق، ونحن مع انفسنا زمن الهجر أو المنفى؟ حينما تركنا جزيرة الحب والألم، لم نفكر اين نرسو وكيف يكون المآل؟ الاكثر قسوةً هو صعوبةُ ايجاد طريقٍ لنعود! فرضت علينا الصحراء سطوتها فامتثلنا. كل ما نملكه اليوم ليس ابداً افضل مما كان.
هل يكون ما في ذاكرتي اليوم تمرداً ؟ تمرداً كان بذرة دفينةً تجرّأتْ حين انشق الغيم عن اشارة نارية ، عن شروع السفن؟ في آخر العمر، وهج حبنا القديم عزاء ...
شاحبةً تبدو الحقول المنسية تحت زرقة السماء ووردة النهار تفرش اضواءها مثل كل يوم. وخطٌّ واحدٌ، شريط فضي من زبد ، يتموج مبتعداً. لماذا اليوم اذكر الشطآن البعيدة؟ لماذا الليلة افكر فيكِ ؟ عوز الروح أم غموض الطرق وانا بين اكوام سنين ظلت مكدسة بعدما اسقطَ الوردُ ما عليه وظلت العاصفة تعاقبني بالغبار ؟ الكتاب على ركبتيَّ والاشجار بدأت تزحزح ليلَ الحديقةِ عنها. ومصباح الشارع  مثل فنار قديم لا احد بعدّ يجيئ إليه. الصمت جدّ عميق، عمقاً ينزلني في الغرق حتى لأحسّ نبضاً من أعماق الارض وشيئاً منه يتسلق صاعداً يلمسني. انا بعض من الاقاصي. خفقٌ، نَفَسٌ، يتساقط عليَّ كأنْ من خوف، من استسلام للفناء، لا شيء بعد. هي حاضرةٌ وأنا أغيب..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

محمد جبير: اهتمامي بالرواية هو بسبب الحبّ الصافي لعروس الأجناس الأدبية

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

نص ونقد.. العبور والانغلاق: قراءة في قصيدة للشاعر زعيم نصّار

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

مقالات ذات صلة

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه
عام

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

كه يلان محمد الرسائل التي خطّها المشاهيرُ تضمُّ مُعطياتٍ قد تكملُ جوانبَ من مشروعهم الإبداعي وتكشفُ طقوسَهم في الكتابة ورؤيتَهم لما يجبُ أن يتصفُ به المبدعُ في حياته ومساره الفكري ومواقفه الإنسانية، كما أنَّ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram