في واحدة من تجلياته الكبرى يقول كانتزاكيس: "أنا جسر شيّد بغير اتقان، أحدهم يعبرني فأتحطم وراءه، احد المناضلين يخترقني، يأكل جسدي وعقلي، لكي افتح له الطريق، ولكي ينجو مني ، انه هو الذي يصبح وليس انا".
هل كان على كانتزاكيس أن يشيّد الجسر(جسده) بإتقان، مع أنه لم يعلمنا ماهية وآلية الاتقان(التشييد) هذا، لكي يكون بمقدور أحدهم العبور عليه فلا يتحطم، ثم يأتي احد المناضلين ليخترقه، يخترق الجسر، الذي هو جسده، يأكل كتلة اللحم والاذرع والاقدام ثم يصعد ببغضائه ولا أدريته وبلهه الى عقله، لا لشيء إنما لكي يفتح الطريق له، لا ليمر، إنما لكي ينجو منه.. وفي النهاية، وبعد تحطم الجسر(الجسد) ومأكلة العقل سيصبح هو، ذاك(أحدهم، المناضل) وليس كانتزاكيس. أيّ خلاص، أي مآل وحطام وأي نهاية ستكون، تلك التي تنتهي على الهيئة هذه.
لن نربح معركتنا مع وجودنا الانساني ما لم نفهم ذواتنا من الداخل، ولن نتحقق من نصرنا على ذواتنا إلا إذا كنا نعي حقيقة وجودنا المشترك، ولن تزول حمّى كراهية الآخر من أنسجتنا إلا بتوحيد الخلاصات وتقريب النهايات. ليست الحياة حقيبة نغلقها في بداية الرحلة ونفتحها في نقاط التفتيش، حين نغادر الحدود، الرحلة التي تبدأ في الزقاق ولن تنتهي داخل النفس الانسانية، لن تنتهي في أبعد نقطة على الحدود. البعض يفهم الهزيمة على أنها هزيمة قطعة عسكرية في معركة، فيما يفهم البعض النصر على انه تحطيم دبابة العدو وكسر بندقيته، أبداً، مفهوم النصر والهزيمة شيء آخر، لن تنتصر على (عدوك) ما لم تنتصر على ذاتك اولاً. والنصر على الذات يعني في ما يعني عناق شقيقك الذي وضعت البندقية في صدره.
تدخل معركة تحرير الموصل نفقها من نقطة اندحار داعش الأخيرة، مارة على الجسر (الجسد) الجنوبي، الذي شيّد بغير اتقان هناك، ولا سبيل لنكران ذلك، فقد تحطم الجسر وفتحت الطريق واسعة، وأيّ مقاربة بين الجسر وأكلة اللحم والاذرع والاقدام ستكون قاصرة، إذ لا وجوب ولا وجود لمعادلة بين ما هدّم من المنازل والآثار والعمارة وبين ما أريق من الدم الجنوبي على الارض، هناك. إذن نحن بحاجة الى من يبحث عن معادلة أخرى، لا تساوي بين كفتي الميزان إنما توائم، تستخلص وتعبر دونما أسئلة كثيرة، دونما تفكير بمعاني النصر والهزيمة التقليدية، العدو بات خارج الاسوار، وهو مهزوم مندحر لا محالة، وهناك من يريد العودة لداره مطمئنا، والعيش فيها بسلام، فقد كان الدرس بليغا عند البعض مثلما كان مؤلما عند البعض الآخر.
يحسم العسكر المعركة بالدبابة والبندقية لكنه غير قادر على استرداد الحياة للذين فقدوا أبسط معانيها، الحياة تعني السلام والطمانينة، ولا طعم لحياة، أي حياة الى جوار البندقية، وإذا كان سكان الموصل قد ذاقوا همجية ووحشية داعش، بما فيه الكفاية، سيتوجب على العسكر(الجيش والشرطة والحشد..) التفكير بالآلية الاسرع، التي تمكّن الناس من نسيان الهمجية والوحشية تلك، ومثل كل متعطش للحرية لا نعتقد أن نشوة النصر تستوجب التشفي بالآخر المهزوم، حتى إن كان عبر يافطة متشنجة أو عبر صورة في بيرق، في نينوى، هنالك جملة مشتركات يصعب فهمها والتفريق بينها، داعش فكر وعقيدة تستل أنساغها من فقه اهل السنّة، القاسم المشترك بين السنّي الداعشي والسنّي غيرالداعشي، لكنْ، لا مشتركات جوهرية بين هؤلاء وفقه الامامية الاثني عشرية، وهنا جوهر المشكلة. ما نريده هنا هو التذكير بان الجسر(الجسد) الذي تحطم هناك، كان شيعياً خالصاً، وحفظ معانيه مسؤولية وطنية.
يعبرني فأتحطم وراءه
[post-views]
نشر في: 15 يوليو, 2017: 09:01 م