TOP

جريدة المدى > عام > ننسى الموت.. لأنه هاربٌ ومتكرّر - 2 -

ننسى الموت.. لأنه هاربٌ ومتكرّر - 2 -

نشر في: 18 يوليو, 2017: 12:01 ص

هذه مجموعة قصائد نشرها صديقي المبدع مجيد الموسوي، واندهشت بها وظلت تطاردني منذ نيسان 2011 وحتى هذه اللحظة . انها حاضرة معي، ليست كقصائد شعرية ، بل بكونها رؤى انطولوجية وصراخاً حاداً وقوياً، متراكماً، تدفق محكوماً بلغة شعرية، شفافة تنطوي على إمكانات ا

هذه مجموعة قصائد نشرها صديقي المبدع مجيد الموسوي، واندهشت بها وظلت تطاردني منذ نيسان 2011 وحتى هذه اللحظة . انها حاضرة معي، ليست كقصائد شعرية ، بل بكونها رؤى انطولوجية وصراخاً حاداً وقوياً، متراكماً، تدفق محكوماً بلغة شعرية، شفافة تنطوي على إمكانات التوصيل التي يحوز عليها الشعر، مثل شيء خاطف، سريع وساحر .

الموت حاضر، ويتمتع بحضور لا ينقطع، هو دائماً يمتلك صوت الآن والمستقبل بانتظاره . ولم يكن غريباً أن يتعايش الشاعر معه، ويراه في كل لحظة، موجوداً، يومئ لمن يريد " أو نكرهه على حد " سواء . لم يبدأ مجيد الموسوي في زمن قريب ويلاحق الموت ، بل ذهب الى آدم، لكنه المجازي، المشحون باستعارة قوية ... انه المعلم / الصديق، لا بل الأب، آدم ... محمود عبد الوهاب الذي لاذ به شاعران، أحدهما استدعاه الموت، والآخر ابتدأ يقلّب ذاكرة الحضور والغياب، كلاهما يقضيان نحو الكينونة وأحدهما يلوّح للكائن والآخر يذهب به بعيداً .
ربما الموت
يخطفني بغته هكذا
هل هو الخوف ؟
رعب الفراق المباغت
هذا الأسى
هذا الفراغ المريب ؟
منذ مات أخي
وأنا أتوجس في الروح
هذا الدبيب
أدب وثقافة 2228 / 20 نيسان 2011
ذهب اثنان الى آدم خوفاً عليه من الموت، وهروباً من الموت الموزّع بكرم على الناس . كل ما في غرفة آدم يشير له، ويومئ إليه ... هي ملكياته الأزلية وخزانته الثرية / كتب / وبقايا بما خلف الليل / آنية لزهور / وآنية ليقول : / ورسائل منسية / سبق ذكره.
الليل يطارد الصحو، ولا يقوى الحاضر على سواده إلا بما اعتاد عليه الإنسان في لحظة خطر متكرر ، ليس سهواً عاف آدم بعضاً من متروكات الليل، بل هي حكمة الوحدة ومراقبة الكون من وراء ستارة الغرفة، كل شيء مجهول ومعلوم، والمعروف، الوحيد هو الموت، المرسل للناس. لا آدم في مأمن ولا ضيفيه، لاذا به، واكتشفا ما تركه الليل من سواده في غرفة الأعزل والوحيد، وبقايا حاضنات صغيرة لزهور اكتشفها آدم الذي ظل صابراً ولم يزاول خطيئة من سبق . توزع هادئاً وسط آنية زهور وأخرى لكي يقولا وهو يراقب رسائل الآخر المنسية :
وتماثيل : صورة طفل
يمدُ يداً نصف مشلولة في الهواء
وسيدة تقتفي أثراً غامضاً
وأيائل مذعورة
وخيول / سبق ذكره
هل هذه رسائل منسية ؟ أم موجودات حضرت في شواغر المكان ؟ أنها رسائل ذات حضور حاضر، وليست منسية، لأنها تومئ للآخر / الغائب ، الذي أرسلها، أو قدمها لآدم عبد الوهاب والذي عاد لاختيار اسمه الذي يريد لأنه محمود رسائل منسية، مقاطع من ذاكرات أصدقاء غابوا أم حضروا وهم في الحالتين، لهم حضور فاعل وشعري تبدّى في أقوى الرسائل وأكثرها حضوراً وقسوة ارتباطاً بمرجعيات لها علاقة معروفة بآدم عبد الوهاب، أو محمود عبد الوهاب ... رسائل، يبدو أنها كثيرة وتماثيل : صورة طفل / يمد يداً نصف مشلولة في الهواء / .
وسيدة تقتفي أثراً غامضاً /
ولأن الشاعر في كل قصائده التي يجري فحصاً لها مأخوذ بفزعه الذي تحدثنا عنه قبلاً، خائف من الذي سكن قصائده وجعل منها رسائل تكتب ولا ترسل، بل تحفظها ذاكرة الشاعر ... آدم الذي كان حاضراً لم يمنح امتداداً حضوراً ، بل ظل وحيداً، خائفاً ومذعوراً من سواد الليل والموت الموزع بكثافة في المدينة... والطفل الذي يمد يداً نصف مشلولة في الهواء، هو احدى الرسائل المنسية الموجودة في غرفة تعرفت جيداً على سواد المدينة، هي ذاكرة كائن خارج المكان / الغرفة، جاءت له هدية، استفزت الشاعر ولم يتركها وحيدة، لأنها متنافرة / متضادة مع آدم عبد الوهاب، لا يعرفان تجانساً أو تماهياً، بل هي بعض من تخيّلات الشاعر، هكذا تصور مكان آدم وأرضه التي دمّرها آدم بنسلياته وموروثاته العدمية .
هذا هو خراب العالم، وتدميره لكثرة أسئلته التي ظلت قائمة ولم تغادر الحياة والأرض . آدم ممتحن بمزاولته الخطيئة وعقوبة الطرد القاسية، ترك فردوسه بعيداً، لأن المرأة أغوته، بعد تعلم منها ما هو بحاجة له . نزل لأرض لم ير فيها غير تماثيل وآنية لزهور، وسيدة تلاحق ما تركه الذي كان قبلاً، لعلها تتصل به وتقيم لها علاقة ، مثل التي طردت بسببها ...
فلا طرد بعد .....
آدم الخائف والصامت، المذعور المفزع من كل ما تركه الليل من سوادات وبقايا لا ضرورة لها، لكنها اختزلت ما مضى من زمن لم يكن بعيداً . آدم الوحيد لا يرى ما رآه الشاعر / الراوي من أيائل مذعورة / وخيول . واكتفى آدم المخذول بنشوة هي فضله الليل الماضية ، لكنه لم يخسر شفافيته ورقّته ووسامته " كان يرق في شبه غيبوبة " وصامتاً كان . متعباً حتماً من كثرة حواره مع الليل وسواداته، لم يكلّم زائريه ... سأله أحدهم وهو الذي رأى صورة طفل وسيدة تركض وراء آثار غير واضحة :
قلت: أجلس ... ثم في لحظة ختم الصمت
أومأ لي، كنت ارقب عينيه دامعتين
وكان يراقب أحفاده في ذهول
فجأة
راح ينظر نحوي كأيّ متسول
لكنه حين أومأ ثانية
لم أجد
ما أقول /
الراوي / الشاعر مذعور أيضاً، وخائف من وحدته ، وعزلة ادم البصري الذي لم يقترف خطيئة، لأنه لم يعرف فردوساً من قبل، ولم يعش مع سيدة، أخذته الى شجرتها، لأنه كان وحيداً وهبة الشاعر رسائل، هدايا، محفوظات زمن طويل أو قصير وجعل منها موروثاً له مع كتب صامته . ولأنه مفزوع من سواد الحلم، لم يقتنع بصمت ادم وعينيه الدامعتين، وهما تقترفان بما لم يقله هو، ولم يصرح به الشاعر. اعترافات وسط فضاء العزلة وقد أدرك الشاعر كل التفاصيل المحيطة بالمكان بسبب من خوفه وتحايله على وحدته ، هو أيضاً، لأنه ارتضى رفقة شاعر آخر في زيارة لآدم ، ذهب سريعاً نحو الكلام الذي هو صوت الحياة، ووسيلة الكائن للإشارة الى كينونته كما قال هايدجر في دراسته على الشاعر " تراكل " لكن آدم لم يكلمه، ربما بسبب عزلته الطويلة ووحدته، لم يعتد على مزاولة الكلام حتى مع نفسه، أومأ له . صعدت سردية العزلة التي اعتنى بها الشاعر، فضاعف من المأساة الخاصة به إضافة أحفاد له ينظر لهم بذهول. هم تصورات الشاعر المتخيلة مثل صورة طفل، تجسد في تمثال، هو احدى الرسائل المنسية . لكن أحفاد آدم البصري لم يكونوا رسائل منسية، بل شفرات الشعر واختياراته لتصفية الأزمة والاحساس بالصدوع الداخلية العميقة .
اعتاد الصمت وسط وجدته، لا احد يتكلم معه، وكل الكائنات الموجودة هي رسائل مفترضة، زعرها الشاعر في مكان تضاعفت عزلة الكائن فيه، حتى الشاعر لم يتكلم إلا نادراً . وظل صديقه المرافق له في زيارتهما لآدم البصري صامتاً . فلا جدوى من الكلام وسط ضجيج لا يسمح لأحد أن يتكلم ..
فجأة
راح ينظر نحوي كأيّ متسول
لكنه حين أومأ ثانية
لم أجد
ما أقول/
تمتعت هذه المروية بعناصر الحكي وتعددت شخوصها ، وربما هي قصيدة متميزة بكثرة شخوصها مع قصرها ، وإذا أردنا ملاحقة الشخوص فيها فسنجد الكائن فيها متعدد ومتنوع ثلاثة شخوص ، وطفل وسيدة ، وتنفتح هذه القصيدة لكائنات غير بشرية مثل أيائل وخيول . هذه الزحمة في العدد والتباين لا يلغي وجود دور جوهري للكائن وحضور انطولوجي . ولكن مركزية الحضور هي لأدم البصري الذي لم يتحدث وغاب عنه الكلام ، واكتفي بالإشارة للراوي ، لحظة طلبه بأن يجلس .... الإشارة هي المكتفي بها ادم ، ويبدو بأن مقتنع بصمته لان الكلام في زمن يسود فيه الليل حتى في النهار بيس له أهمية ، ويتساوى الصمت معه . لذا الراوي هو الوحيد الذي يتكلم ، وكأن دوره خاص بهذا المجال في هذه المروية . ولم تكن هذه الملاحظة خاصة بقصيدة آدم ، بل تكاد مشتركة في قصائد . واتضح لي وأنا أتابع قصائد مجيد الموسوس بأن الحضور متنوع ، تنائي ، أو أكثر ، لكن الكلام محدد جداً .... ينحصر أحيانا كسمة فردية للراوي / الشاعر ، ودائماً ما تبرز فجوة ، وصدع في البناء ، يفضي الى صمت . لا يقلل في هيمنته صوت الراوي وهو يقص علينا غنائيته كما في قصيدة " شاهدة " و " نشيد النوم " و " انتظار غراب " و " أحساس " و " مرثية السومري " .
الشعر يستدعي الماضي ، ويستحضر سردية زمنه ويصوغ لنا أجمل الحكايات المشحونة بالتوتر والفجيعة ، لان الغياب يداهم الكائن ، يلاحقه ، يهدد وجوده ، ويلغيه ، من هنا برزت بلاغة درامية في هذه القصائد . حيث شفافية اللغة وشفريتها اللينة ، المرنة ، والحادة في آن واحد . الكينونة موجودة . في اللغة وحاضرة في عمق الشعر ، لان ليست أداة ، من بين العديد من الأدوات التي يمتلكها الإنسان ـ كما قال هايدجر ـ بل هي بشكل عام وقبل كل شيء ، ما يضمن أمكان أن يجد الإنسان نفسه في قلب تفتح للوجود ولا يكون العالم إلا حيث تكون اللغة .
قصيدة " غرفة ادم " مغايرة عن القصائد الخمي المنشورة معها في العدد نفسه ، ربما لأنها تمثل تجربة قديمة وبناء مختلفاً ، تسبد في الحكي والحوار ، وعناصر المرويات ، لذا سجل الشاهر هامشه الطويل وعلاقة قصيدته مع القاص محمود عبد الوهاب أثناء مرضه الأخير . واعتقد بأن سيادة الحوار من طرف واحد وغياب الطرف الأخر كلامياً مع حضوره المادي ، هو تمظهر للظروف التي عاشتها البصرة أثناء الحرب العراقية / الإيرانية ، العزلة ، والوحدة ، وسيادة وسط الجماعة ، لان الجو العام والقلق والفزع والحركة ، السريعة للهروب لا توفر فرصة للتبادل الإنساني ، والحوار كاشف عن هذا الجانب الرفيع في الحياة والعلاقات .... وموضوعة الحوار ، عنصر فني وبنائي مهم ، له علاقة مباشرة باللغة التي تتخلق به وتبدو متجوهرة ومتسامية . لذا اختارت الوجود مسكناً لها .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

محمد جبير: اهتمامي بالرواية هو بسبب الحبّ الصافي لعروس الأجناس الأدبية

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

نص ونقد.. العبور والانغلاق: قراءة في قصيدة للشاعر زعيم نصّار

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

مقالات ذات صلة

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه
عام

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

كه يلان محمد الرسائل التي خطّها المشاهيرُ تضمُّ مُعطياتٍ قد تكملُ جوانبَ من مشروعهم الإبداعي وتكشفُ طقوسَهم في الكتابة ورؤيتَهم لما يجبُ أن يتصفُ به المبدعُ في حياته ومساره الفكري ومواقفه الإنسانية، كما أنَّ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram