TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > بمناسبة مئوية المكسيكي خوان رولفو

بمناسبة مئوية المكسيكي خوان رولفو

نشر في: 18 يوليو, 2017: 09:01 م

كان خوان رولفو ظاهرة غريبة في أدب أميركا اللاتينية، رغم أنه نشر كتابين وحسب. فمن المعروف، أن بين تاريخ وفاته في 7 كانون الثاني 1986 وبين نشر روايته، "بيدررو بارامو"، مرت سنوات طويلة، (31 سنة). وطوال العقود الثلاثة تلك لم يدفع خوان رولفو أي كتاب للمطبعة، ولو رواية قصيرة؛ بل لم ينشر أية قصة قصيرة. وعندما سأله الصحافيون، خلال زيارته لإسبانيا في العام 1983، لتسلم جائزة "أمير استورياس"، لماذا لم يكتب اي عمل لاحق؟ أجاب رولفو، بأنه يحتاج الوقت لذلك، وهو لا يملك هذا الوقت، لأنه يعمل لساعات طويلة يومياً في "المعهد الوطني للسكان الأصليين"، أكثر من عشر ساعات يومياً. وفي مناسبات أخرى كان يرجع ذلك إلى "الحاجة الاقتصادية"، حيث، في المكسيك، "من المستحيل أن يستطيع المرء العيش من الكتابة". ولأنه كان يعرف بأن أعذاره تلك لم تكن مقنعة بما فيه الكفاية، كان يغامر أحياناً بالبوح ببعض الأسرار الصغيرة. "الكتابة تسبب لي الرعب الدائم. مجرد تخيل الورق الأبيض هو قضية مرعبة....". أو كان يحاول أن ينفي بأنه لا يكتب: "مشغول بالعمل على قصص قصيرة أخرى إضافية، لا رواية، إنما قصص انتهيت من كتابتها".
في الحقيقة كان رولفو يعمل منذ سنوات الستينات على رواية حملت عنوان "السلسلة الجبلية". ففي نيسان عام 1963 نشرت الصحيفة المكسيكية "أكسيلسيور" مقابلة أجرتها معه تحت عنوان "السلسة الجبلية كتاب جديد لخوان رولفو". لكن لم يُعرف بعد ذلك شيء عن الرواية، باستثناء اسمها. وبهذا الصدد يروي الكاتب الإكوادوري "بينيامين كاريون" في مقال له نشره في صحيفة البايس الأسبانية، بأنه في العام 1977 كان في المكسيك، وكان في تلك الأيام اصيب بجروح في ساقيه، الأمر الذي جعله يتنقل بالكرسي المتنقل. وكان غالباً ما يزوره خوان رولفو، ويقوده للمتنزه العام، حيث يجلسان، ويصمتان. وذات مرة، قطع خوان ررولفو فجأة صمته، ليعترف له، بأنه انتهى قبل مدة طويلة من كتابة "السلسلة الجبلية"، لكنه ممتعض جداً منها، ولا يعتقد بأنه سيقبل على نشرها، لأن "فيها الكثير من الدم". في الرواية الكثير من الدم، أنها تتحدث عن تمرد تلاميذ المسيح ( التمرد وقع في المكسيك بين 1925-1928)، خوان رولفو بالذات كان من أنصار هذه الطائفة وأبوه كان أحد "تلاميذ المسيح" الذين وقفوا ضد الرئيس "بلوتاركو ألياس كاييس" عندما صادر ممتلكات الكنيسة وحرّم على القساوسة ممارسة السياسة. والد رولفو مات في النزاع.
هناك أيضاً قصة قصيرة له تؤكد فكرة "الدموية" التي تحدث عنها والتي حملت عنوان: " الليلة التي تركوه فيها وحيداً". فبطل القصة شاب متحمس يتوجه للجبال بصحبة إثنين من أعمامه. لكن العمين يُباغتان من قبل الاتحاديين (الجيش الحكومي الرسمي) ويُشنقان، باستثناء الشاب، الذي ينقذ نفسه، لأنه ظل نائماً. من الجائز جداً أن يكون الشاب، ببساطة خوان رولفو ذاته، والرُهاب الذي تركت ظلاله الحرب الأهلية المكسيكية العبثية، التي قاتل فيها الأخ أخاه، ربما يوضح مقاومة رولفو لتكملة كتابة رواية، كانت تحتم عليه تضمين كل تلك المسارات التراجيدية للمكسيك "الثائرة"، والتي حوت على "الدم الكثير"، الذي ذكره في حضرة الكاتب الإكوادوري، زميله.
التراجيديا هي الهاجس المسيطر على إبداع رولفو على الدوام؛ إنها حاضرة في القصص القصيرة العشرين التي تشكل مجموعته القصصية "سهل في سعير"، وفي روايته اليتيمة "بيدرو بارامو". كما لو كان يريد تثبيت براءة اختراع خاصة بأسلوبه القصصي والروائي، وربما ذلك ما جعله يقول عن روايته بأنها "حوار أموات" والأكثر رعباً في كل هذا هو أن ذلك يبرز في كل ملاحظات رولفو الشخصية، سواء تلك التي لها علاقة بالبيئة العامة أو بتلك التي لها علاقة بشخصيات قصصه. فهو عندما يعود ويستذكر قرى منطقته التي ترعرع فيها، يعترف بأن "في تلك المناطق جرت أكثر الأحداث إثارة للرعب": "ترعرعت في سان غابريل وهناك حدثني الناس قصصاً عديدة، فيها الكثير من السيوف والحروب والجرائم".
يمكن القول في النهاية، أنه بالإضافة إلى القيمة الجمالية الكبيرة التي اضافها الروائي المكسيكي خوان رولفو للأدب العالمي في كتابيه المشهورين "سهل في سعير"، و"بيدرو بارامو"، إلا إنهما من الناحية الأخرى، كانا تمرينين كافيين بالنسبة له، جرب عن طريقهما قدرته على استدعاء الرعب والألم، ولم يشأ تكرار ذلك مرة أخرى!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram