حين نقول بانَّ كل شيء نسبي في العالم، سيكون الصدق والكذب والوفاء والخيانة والحب والبغضاء مفردات ضمن التصنيف هذا. أمس في إحدى حانات بغداد جمعتني الصدف مع صديقين، هما صديقان لبعضهما منذ أربعين سنة، احدهما من بغداد، باب الشيخ وآخر من البصرة، محلة الجمهورية. البصري صديقي انا أيضاً، وتحت الانارة الضعيفة رحت أصغي للود المشترك بين الرجلين، لنوع من الصداقة النادرة، لوفاء ما بعده من وفاء، فقد كانا ذات يوم بمستوى معيشي واحد، يتقاسمان الخبز والكأس وأجرة السيارة، لكن الله منَّ على البصريِّ فأصبح رجل اعمال ناجح، ثم ميسوراَ، ثريا، كريما، سخياً، فيما ظل البغدادي بحدود العيش التقليدي، لا أعلم حدود المساعدة التي قدمها صاحبي البصري الى صديقه الشيخلي لكنني أثق بيده وقلبه كثيراً.
وقبل أسبوعين كتب أحد أصدقائي القدامي- كان نظام صدام حسين قد قتل والده بسبب من انتمائه لحزب الدعوة- ما يودي بحياتي ويسعى لقتلي، بسبب من منشور لي اساء فهمه صديقي الدعوجي، مثلما أساء فهمه كثيرون. كاتبته، انا المحسوب على الشيوعية ذات يوم، على العلمانية اليوم، معاتباً، مذكرا بما وقع من حيف علينا معاً، وقد ارعبتي سطورُه: قلت له: أما كنا ضحيتين لجلاد واحد؟ كيف تكتب قاتلا لي، ألا ترى أن كثيرين سيحولون ما كتبته عني الى رصاص؟ ولأنَّ الصدق والوفاء والسماحة واللطف طبع في الرجل، فقد أجابني: أنا لم أقتص من قتلة ابي، من الذين تيتمت على أيديهم طفلاً، أتراني أسعى لقتلك. أقول هذه وأنا اتذكر سائق سيارة الحمل، الجندي الذي كان معي في الحرب، الذي كنت اجعل سريري الى سريره، في غرفة الخطار، ببيتنا القديم، لأكثر من شهرين وثلاثة، يأكل من طعامي ويشرب مائي وتعد زوجتي الطعام لنا معا، لكنه، ودونما إساءة مني، كان قد وشي بي عند شعبة الاستخبارات العسكرية، قائلاً : لم أر في بيت طالب عبد العزيز صورة لصدام حسين !! وكانت كلمة مثل هذه قمينة بسجن أي واحد مثلي.
يقول صاحبي الذي أدمن السفر والنوم مع النساء في المدن المفتوحة، بانه أضاع ورقة من فئة الـ 100$ حين كانت إحداهن على فراشه، ولما همّت بالذهاب اتهمها بسرقته، ثم أنها أقسمت له بغليظ الأيمان بانها لم تمد يداً لأحد من قبل، وانها برئية مما يتهمها به، لكنَّ صاحبي المعبأ بثقافة اللصوص والكذب والخداع والخيانة، كأي عراقي أو شرق اوسطي، لم يكن ليتجرد من ثقافة محيطه بعد، فقد ذهبت الظنون به، فما كان منها إلا أن تفرغ حقيبتها امامه، وتنثر مقتياتها واحدة واحدة، ثم انها راحت تتعرى، فتجردت من قميصها وبنطلونها وحمالة صدرها الجميلة وتجردت من كلسونها الصغير، الذي بحجم الـ 100$ وقفت واستدرات، ولم يعثر صاحبي على شيء من الخيانة في جسدها، ومثل مطعونة بشرفها خرجت. كانت نقود صديقي قد سقطت من محفظته تحت السرير، ثم انه جاهد مسترضياً لها، حين صادفها ثانية في ساحة المدينة، اعطاها النقود وأكثر، لكنها أبت مستهجنة ما قام به، وظلت أمينة على طبعها في الوفاء والصدق.
ليست الصداقة مفردة نقولها في المقهى، وما كان الشرف كلمة نتداولها، ولن يكون الصدق تعبيراً على ورقة في المدرسة، وإذا كنا قد رسمنا للوفاء في أذهاننا فصورة الكلب أصدق من صور كثيرة.
فـي بناء ما يتهدم من حــولنا
[post-views]
نشر في: 18 يوليو, 2017: 09:01 م