بديهي القول بأن لكل كيان حضاري أعمدة ترفعه وتبقيه شامخاً وعندما تُزاح تلك الأعمدة يتهاوى الكيان حتماً، وللمسرح في العراق كيانه الذي يبقى شامخاً منذ أربعينيات القرن العشرين وحتى الألفية الثانية وبقى كذلك رغم الهزات التي تعرض لها البلد طوال تلك السنوات، سواء نتيجة للانقلابات السياسية أو للحروب العقيمة التي دفعه اليها الحاكم المستبد، وكانت تلك الأعمدة تتوارث وتتجدد وتقوى وتترسخ عبر الأجيال.
كان (حقي الشبلي)، و(يحيى فائق) و(محمود شوكت) يمثلون أعمدة الجيل الأول . وكان (ابراهيم جلال) و(جعفر السعدي) و(جاسم العبودي) و(صفاء مصطفى) يمثلون الجيل الثاني، وكان (بدري حسون فريد) و(سامي عبد الحميد) و(سعدون العبيدي) و(يوسف العاني) و(عادل كاظم) و(طه سالم) يمثلون الجيل الثالث. وكان (محسن العزاوي) و(فاضل خليل) و(صلاح القصب) و(محيي الدين زنكنة) و(جليل القيسي) يمثلون الجيل الرابع. ومنذ وصل الأمر إلى الجيل الخامس خلال الثمانينيات أخذ الكيان المسرحي بالتزعزع رغم وجود بعض الأعمدة التي راحت تسنده وتمنع انهياره أو تهاويه ولكن تصدعه بدا للعيان، فقد ضعفت نتاجاته وتناقصت مواهبه وضعفت ادارات مؤسساته وخصوصاً بعد الهزة الكبيرة التي تعرض لها العراق عام 1991 وبداية الألفية الثانية.
وأشير هنا إلى بعض مظاهر التصدع التي تعرض لها كيان المسرح في العراق.
أولاً : انخفض مستوى التعليم المهني لفنون المسرح بسبب غياب الكادر التدريسي المقتدر والمعلم . أما جراء التقاعد أو الوفاة أو الهجرة.
ثانياً: غابت الفرق الخاصة (الأهلية) عن الميدان والتي كانت تتنافس في انتاجاتها محققة المستويات الفنية والفكرية العليا، حتى مع انتاجات فرقة الدولة (الفرقة القومية للتمثيل) وحدث ذلك الغياب نتيجة لتفرق اعضاء تلك الفرق وهجرة العديد منهم خارج البلد وغياب الدعم المادي من الجهات المسؤولة لكي تواصل تلك الفرق عملها وبسبب فقدان حتى مقراتها مثل (مسرح بغداد) و(مسرح الستين كرسي).
ثالثاً: تقلص أعمال الفرقة القومية للتمثيل والتي سميت (الفرقة الوطنية للتمثيل) ولا أدري ما الفرق بين التسميتين وكان الأصح تسميتها (فرقة المسرح الوطني National Theatre ) كما هو المسمى في جميع الدول المتقدمة مسرحياً. وما تقدمه الفرقة الوطنية من أعمال لا تعتمد على أعضاء الفرقة الأساسيين وهم كثير بل على مسرحيين من خارج كادر الفرقة وهذا أمر يثير الاستغراب.
رابعاً : عدم وجود خطة سنوية وبرنامج واضح لعروض الفرقة الوطنية تتضمن مسرحيات عالمية مشهورة ومسرحيات عراقية لمؤلفين معروفين ومسرحيات عربية لمؤلفين كبار كما كان الحال في الستينيات والسبعينيات وما يعرض في المسرح الوطني من مسرحيات يعتمد على الصدفة والمبادرات الشخصية.
خامساً : عدم دعوة مخرجين وممثلين ومصممين ضيوف من الرواد أو المشهود لهم بالخبرة والقدرة كما تفعل جميع فرق الدولة المسرحية في العالم.
نعم تم ابعاد أو إزاحة الأعمدة المتسلحة بالأسلحة الفنية، فأبقت على الكيان المسرحي راسخاً وحلت محلها أعمدة أخرى ضعيفة التسليح أو لنقل ناقصة التسليح، مما يدعو إلى الخشبة من تهاوي الكيان أو الخشية من بقائه مضعضعاً مع وجود بعض الأعمدة الواعدة، ونخشى أن تُزاح حتى هذه البقية فينهار الكيان.