تُرى ماذا سيخطر على بالك وأنت تنظر الى نفسك في المرآة ولا ترى غير هيئتك من الخلف. لا تشاهد وجهك على سطح المرآة بل قفاك ومؤخرة رأسك، ولا شيء آخر غير شعرك الذي صففته بعناية في بداية الصباح! لا أحد يتوقع ذلك بالتأكيد وليس هناك من يرى الأشياء بهذه الطريقة، لكن للرسام البلجيكي رينيه ماغريت رأي آخر، وهذا ما رسمه في لوحته (صورة ليست مستنسخة) المعروضة امامي الآن في معرض (جنون السريالية) بمتحف بويمانس في مدينة روتردام جنوب هولندا. معرض مهم خاص باللوحات السريالية لفنانين كبار أثروا بتاريخ الرسم، وقد ضَمَّ بالإضافة الى ماغريت، سلفادور دالي وماكس ارنست وميريل أوبنهايم وأيف تانغي بالإضافة الى بعض الرسامات السرياليات مثل الين أغار وليونورا كارينتون وفالنتين بينروس، وآخرين كثيرين. وقد اعتمد المتحف في إقامة هذا المعرض على إستعانته بمقتنيات اثنين من عمالقة جامعي اللوحات في العالم، وهما البريطانيان رونالد بنروس وإدوارد جيمس، حيث شكلت اللوحات التي اختارها المتحف من مجموعتيهما تناغماً رائعاً وتكاملاً وانسجاماً تاريخياً وفنياً، مع طريقة عرض أخّاذة وإضاءة متناغمة مع اللوحات.
في احدى زوايا المتحف هناك فتاة صغيرة تنظر من ثقب الباب، هذا ما أراه في لوحة (البيانات الواجبة) للفنان ليونور فيني، حيث يظهر باباً اصفر اللون، ينتصب وحيداً دون غرفة أو جدران فوق غيمة بيضاء لتحني الفتاة رأسها وتنظر من ثقب المفتاح، بينما تظهر في الجانب الآخر من الباب، فتاة طويلة تمشي وقد وضعت مجموعة كبيرة من الشموع المشتعلة على شعرها. في بقعة مضيئة اخرى رمقتني قبلة حمراء من بعيد، اخترق ضوؤها زائري المعرض ودنا مني، اقترب شيئاً فشيئاً، فإذا هي أريكة سلفادور دالي الشهيرة، التي صممها على شكل فمٍ او شفاه حمراء قانية! كنت غالباً ما أجلس على أريكة لأتأمل هذا العالم المحيط بي، لكن هذه المرة، انقلبت الصورة، حيث أقف وسط هذا العالم وأتأمل أريكة فارغة! وهذا إيضاً شكل من أشكال السريالية.
اترك أريكة دالي ورائي، لاقترب من اجواء الرسام تانغي ولوحته الغامضة (شيء خارج الشيء) التي تميل الى اللون الرمادي حيث تتناثر بعض البقع ذات الأشكال الأميبية هنا وهناك لتقربها من أجواء الصحاري التي يرسمها دالي. ومن اللوحات المهمة في هذا المعرض، لوحة الفنان الألماني ماكس ارنست ( الثورة الليلية) حيث يظهر رجل في شرفة، يجثو على ركبتيه وهو يحمل بين ذراعيه امرأة تبدو مثل التمثال، ويغلب على هذه اللوحة اللون البني الداكن، ماعدا بقعتين حمراء وبيضاء في الوسط، وقد ذكرتني هذه اللوحة بعوالم الفنان الايطالي دي جيريكو.
أتجول في المعرض، وسط هذه العوالم السريالية وبين لوحات رسمها هؤلاء الأساتذة الكبار الذين ذهبوا وأودعوها معنا كقطع فنية فريدة نتمتع بها حتى هذه اللحظة. وبينما كنت أُحَلِّقُ مع افكاري السريالية، حَلَّقَ امامي طائر كبير أزرق اللون وكأنه يريد الانعتاق من اللوحة التي رسمته فيها ليونورا كارينتون في لوحة (صورة السيدة ليت) وتظهر بجانب الطائر السيدة ليت وهي ترتدي فستاناً احمر اللون يغطي كامل جسدها بينما تحول شعرها الى ما يشبه القش الجاف الذي ينتصب مثل فروة القنفذ.
من خلال القاعات التي امتلأت بزائري هذا المعرض، وكذلك من خلال ما رافق ذلك من دعاية ومتابعات، يبدو لي أن السريالية مازالت تجذب الناس وما زال رساموها ينالون قسطاً كبيراً من التقدير والتقييم. وبعد مرور مئة سنة تقريباً على بداية ظهورها من خلال الشاعر الفرنسي أندريه بريتون مع مجموعة من الشعراء والرسامين، مازال الناس تواقين لحضور معارض فنانيها والتمتع بغرائبية أجوائها، كما يحدث امامي في هذا المعرض الجميل.
أريكة سلفادور دالي
[post-views]
نشر في: 28 يوليو, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...