عند الوصول إلى مرحلة الحداثة، لم يعد للبحث عن هوية المسرح أهمية، حيث تبين أن العرض المسرحي في هذا البلد أو ذاك، أخذ يستعيد ملامح من ثقافات مختلفة غير الثقافة المحلية . وفي منتصف القرن العشرين راح العاملون في المسرح الأوروبي الحديث أمثال (انطونين آرتو) يبحثون عن صيغ جديدة للنص والعرض المسرحي، كانت الموروثات الشرقية وتقنيات مسرحها وتقاليدها من أبرز تلك الصيغ وقد سبق (آرتو) في هذا المضمار مخرجون أوروبيون ومنهم (ماكس راينهارت) عندما استعار من حكايات ألف ليلة وليلة ثيمات معينة ومن (الهينا ميحي) و(طريق الزهور) من المسرح الياباني و(فزفولد ميرهولد) في استعاراته من المسرح الهندي (الكاثاكالي) الذي يعتمد على التعبير بواسطة الجسد واعضائه. وبعد (آرتو) اهتم (برتولد بريخت) بالموروث الشرقي فكتب (الإنسان الطيب من ستزوان) و(دائرة الطباشير القوقازية) واستفاد من تقنيات المسرح الشرقي في بلورته لعامل (التغريب) كانت تجربة (آرتو) في الاستفادة من الثقافات الشرقية قد تأثرت بالرقص البالينيزي من اندونيسيا عندما شاهد عرضاً لفرقة بالينيزيه في معرض باريس العالمي وخصوصاً ما في ذلك العرض من عناصر طقسية .
في مجال كتابة النص المسرحي كان للتداخل الثقافي مظهره فقد كتب السويدي (ارغست سترندبرغ) مسرحية بعنوان (حذاء ابو القاسم الطنبوري) وهي مقتبسة عن أحد خطابات ألف ليلة وليلة وكتب الشاعر الانكليزي (جون فليكر) مسرحية بعنوان (حسن) اقتبسها هو الآخر عن أحد خطابات ألف ليلة وليلة – وكتب الأيطالي (كارلو كونتزي) مسرحيته المشهورة (الأميرة توراندوت) اعتمد في احداثها على الموروث الشعبي الشرقي، وكذلك فعل النرويجي (هنريك ابسن) في مسرحيته (بيير غنت).
وبعد مرحلة الستينيات من القرن العشرين، راح عدد من المخرجين الأوروبيين ومنهم (بروك) و(منوشكين) يبحثون عن مصادر ثقافية من آسيا وافريقيا لكي يدخلون شيئاً ما فيها في اعمالهم المسرحية . وقدم (بروك) نسخته من الملحمة الهندية (المهابهاراتا) عام 1985 مع ممثلين من جنسيات مختلفة . وبعدها أخرج ملحمة شرقية أخرى هي (رسالة الطير) للفيلسوف الفارسي – التركي (العطار) .
ضمّت (مينو شكين) إلى فرقتها اعضاء من جنسيات أخرى غير الفرنسية واستفادت من تقنياتهم الخاصة في التمثيل وخصوصاً تقنيات المسرح الشرقي، معتقدة أن المسارح التقليدية في الشرق مثل الكاثاكالي واوبرا بكين والنود الكاثاكالي، يمكن أن تكون في تقنياتها منطلقاً لتجديد المسرح الغربي وفي هذا المجال قدمت مسرحيتها الاستعراضية (التاريخ المرعب والمستمر لنوردوم سيهانوك ملك كمبوديا) عام 1985 .
اقترب المخرج الايطالي (بوجينيو باربا) مع فرقة (اودين الدانيماركية) أكثر من مفهوم التداخل الثقافي حين التزم بمبدأ (المقايضة) أي مقايضة عروض فرقته التجريبية بعروض محلية في بلدان مختلفة وثقافاتها المختلفة، كأن تقدم الفرقة عرضاً مسرحياً في بلد ما مقابل عرض فولكلوري من قبل مجموعة من الهواة في بلد آخر، وكان (باربا) وما يزال يعمل مع اعضاء فرقته من جنسيات مختلفة يستفيد من ثقافاتهم ويغذيهم بثقافته.
لايتمثل التداخل الثقافي في استفادة المسرحيين الاوروبيين من ثقافة المسرحين في الشرق من ثقافة الأفارقة في فنون العرض الأخرى كالرقص الشعبي والاحتفال الشعبي والشعائر الدينية وطقوسها بل يتمثل ايضاً في استعارة المسرحيين في الشرق لتقنيات المسرح الغربي، وذلك عندما تتبنى فرقة مسرحية يابانية مسرحيات ليوجين اونيل الامريكي أو مسرحيات ساموئيل بيكيث الايرلندي، أو تقنيات المسرح الفقير للبولوني (غروتوفسكي) أو تقنيات ستانسلافسكي الروسي، وهكذا فعل المسرحيون العرب في مختلف بلدانهم.
وهكذا تتداخل الثقافة الوطنية المحلية بالثقافة الاجنبية، وهكذا أيضاً لم يعد فن المسرح فناً محلياً خالصاً له هويته الوطنية المتميزة، بل صار فنّاً عالمياً شمولياً، وإلا ماذا يعني أن تقدم مسرحيات شكسبير في مسارح معظم دول العالم وبلغاتها المختلفة وبرؤى مخرجيها المسرحيين المختلفة، وماذا يعني أن معاهد التمثيل في العالم تُدرس طريقة ستانسلافسكي، وما معنى أن تقدم أقسام المسرح في جامعات العالم بإعداد بحوث علمية عن المسرح الشرطي للروسي (ميرهولد) أو للفرنسي (جاك كوبو) أو للألماني (ماكس راينهارت) وما معنى أن تقدم ملحمة كلكامش بصبغة اوبرا أو باليه في هذا البلد الاوروبي أو ذاك بينما لا يلتفت إليها المسرحيون العراقيون إلا في وقت متأخر، ما معنى أن يكتب شكسبير مسرحية (عطيل) اقتباساً من كتابات الايطالي (سينتييو) عن حكايات الف ليلة وليلة، ويقوم الشاعر الدرامي الانكليزي الكبير باستبدال حكاية التفاحات الثلاث بالمنديل الذي أهدته والدة عطيل له لكي يهديها بدوره الى المرأة التي يحب؟
المسرح والتداخل الثقافي
[post-views]
نشر في: 31 يوليو, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...