(القسم الثالث)
أقدّم أدناه (وفي أقسام لاحقة ستنشر تباعاً) ترجمة لفصول منتخبة من الكتاب الصغير الذي نشره (ديفيد معلوف) في مجلة Quarterly Essay) ) الأسترالية في العدد 41 لسنة 2011، وهذه المجلّة تُعنى بالأفكار وتأثيراتها في السياسة والحياة العامّ
(القسم الثالث)
أقدّم أدناه (وفي أقسام لاحقة ستنشر تباعاً) ترجمة لفصول منتخبة من الكتاب الصغير الذي نشره (ديفيد معلوف) في مجلة Quarterly Essay) ) الأسترالية في العدد 41 لسنة 2011، وهذه المجلّة تُعنى بالأفكار وتأثيراتها في السياسة والحياة العامّة .
المترجمة
طبيعة الحياة السّعيدة
إن (الحياة الطيّبة) - كما نفهمها اليوم - لاتشغل نفسها بإثارة سؤال بشأن كيفية عيشنا من قبلُ، مثلما لاتعبأ بالخصائص الأخلاقية أو مفردات مثل سيادة المنفعة أو كفّ الأذى عن الآخرين؛ فنحن لم نعُد نستخدم تلك العبارة بأيّ شكل من الأشكال السابقة ، بل غدا مفهوم (الحياة الطيبة) كما نفهمها اليوم مرتبطاً بما ندعوه أسلوب الحياة - بالعيش وسط عالمٍ لايفتأ يعرض أمامنا شتى صنوف العطايا والطيّبات المتاحة للإجتناء، ويمكن القول - حتى لو تكلمنا بمفردات مفهومة للناس في بواكير القرن العشرين - أن مفهوم الفضيلة يكاد لايكون موجوداً بشكل محسوس بالنسبة لنا؛ فقد بات كلمة غريبة عتيقة الطراز في خضمّ انشغالات المعيشة اليومية المتطلبة، ويكاد مفهوم (الخير أو الفضيلة أو الطيبة) الذي نسِمُ به الحياة يتساوق مع نظيره المعاكس (الشرّ) الذي ماعاد هو الآخر عملة متداولة!! . الشر موجود في حياتنا (مثل وجود السرطان) ولكنه يظل أمراً محفوفاً بالغموض وباعثاً على الرعب ولانملك علاجاً ناجعاً له؛ ولكننا نراه دوماً أمراً يختصّ بفردٍ ما وليس خصلة تشمل الجميع. الرجال والنساء كما نراهم في الحياة يمكن أن يكونوا حمقى، غير مكترثين بشيء، غير مسؤولين، أنانيين، جشعين، كما يمكن لأفعال الغضب والخوف غير العقلانية (والمخدرات والكحول كذلك) أن تجعلهم يأتون بأفعال مدمرة وإجرامية - هؤلاء ليسوا بالضرورة الملزمة أشراراً؛ ولكن ثمة البعض الآخر منّا (وهم ليسوا قلّة قليلة لو حسبنا الأمر من زاوية إحصائية) ممّن لايحملون أي حسّ بحقيقة الآخرين أو بمشاعرهم، ولن يتأخر العلماء الثقاة في العلوم العصبية في إخبارنا بأن هؤلاء هم ضحايا حالة كيميائية وحسب، وحتى هذه اللحظة يبدو تسويغهم هذا هو أقصى مايستطيعون فعله .
في عالم السلوك (الذي يضمّ الفضيلة في حدود مملكته) نميل في العادة هذه الأيام إلى التفكير بالخصائص الاجتماعية التي يُراد لها أن تشكّل هياكل من المفردات التي تجد الخيرية goodness تمثلاً لها في إطارها: طيبة القلب ونقاؤه، النزعة الروحية الجمعية، الكرم، الإحسان، الاهتمام بالآخرين ،،، الخ من القيم المجتمعية، وهي بالتأكيد ليست أمراً غير محمود ويمكن إجمالها في عبارة "تعزيز الشعور بالجيرة الجمعية" وماتستبطنه من مسؤولية بشأن الشعور بأهمية الصالح العام وبمساهمتنا في العالم (من أوسع الأبواب الممكنة) وكذلك بمساهمتنا في تلبية بعض احتياجات الآخرين.
يكتظّ التلفاز على الدوام بالكثير من الإعلانات التي تخاطب ضميرنا الاجتماعي وإرادتنا الخيّرة: أنقذوا الأطفال، الرؤية العالمية، أوكسفام، أطباء بلا حدود، العفو الدولية (أمنستي انترناشنال)، ويمكن لبعض الإعلانات أن تكون أكثر محلية مثل إعلانات جمعية (فنسنت دي بول*) وجيش الخلاص. صرنا اليوم نترك الخيارات الخاصة وأسئلة مثل السلوك الجنسي - على سبيل المثال فحسب - ونضيع في غياهب التشتت الشخصيّ ماخلا تلك البرهات التي يتخذ فيها الإعلان السائد سمة إجتماعية (مثل العنف العائلي) أو سمة قانونية (مثل إساءة التعامل مع الأطفال)، أما إذا كانت موضوعةٌ مثل نيل شيء من التوازن الروحي هي موضع المساءلة فسيكون الأمر محض خيار شخصي يمكن للمرء قبوله أو ركله جانباً .
إن تعزيات الفلسفة مازالت متاحة لنا (مثلما كانت مُتاحة لمونتين من قبلنا)، ويمكننا نشدان صدى تلك التعزيات في كتابات أفلاطون وأرسطو وإيبيكتيتوس وشيشرون وسينيكا، ويمكننا في العقود المبكرة ذاتها من القرن الحادي والعشرين أن نعود لقراءة مونتين نفسه إلى جانب سبينوزا وكانت و شوبنهاور و كيركيغارد، ولكننا ماعدنا ندير مدارس رسمية (مثل تلك التي كانت لدى الإغريق أو الرومان) لتدريب النخبة على الانضباط الشخصي والاجتماعي والحفاظ على كلّ مايؤمّن الذات تجاه عوامل الوهن الخارجية وتجاه فقدان الاحتواء الذاتي والكفاية الشخصية، وتجاه فقدان السيطرة الذاتية كذلك .
إن ما أصبح متاحاً لنا اليوم هو المساعدة السايكولوجية لمن يطلبها ، أو المعونة الإرشادية الكنسية لمن كان منضوياً تحت جناح كنيسةٍ ما ، أو جلسات اليوغا والتأمل، أو وكالات المواعدة، أو الفيسبوك، أو القدرة المفترضة في معرفة علامات المثليين جنسياً، أو المخدرات، أو الركوب المضني للدراجات، أو ذلك الطيف الواسع من المثيرات والمسرات المفترضة التي توفرها برامج الرياضة المتواصلة بلا إنقطاع على التلفاز، أو في ذلك الدفق المتناسل بشراهة للمواقع البورنوغرافية (الإباحية)، أو في مسابقات الأزياء أو الغناء أو الرياضة أو الطعام، أو في النوادي الشغّالة طول الليل. إنه عالم مجاني، وعليك أن تحدّد خيارك وحسب !! .
يميل معظمنا هذه الأيام لفهم الحياة الطيبة طبقاً للمفهوم المادي الذي عرضنا جوانب منه في العبارات السابقة (أقول " معظمنا " لكني في واقع الحال أعني تلك الصفوة الأكثر حظوة وامتيازات والتي تعيش في المجتمعات الصناعية المتقدّمة. إن الحقيقة الصارخة هي أننا معشر الجنس البشري وإن كنا جميعاً أحياء على سطح هذا الكوكب في اللحظة ذاتها فإننا لانعيش في القرن ذاته !!) . يعيش معظمنا أيضاً حيوات طيبة إذا ماأردنا مقايسة نوعية المعيشة طبقاً لنزعة الخير الطوعية في المجتمع ؛ إذ بات بإمكان أغلبنا أن يضع في حسبانه احتياجات الآخرين - الأقل حظاً منّا - والانتباه لمشاعرهم، وأن يكون مستعداً دوماً لتكريس جزءٍ ليس بالقليل من وقته ومتعته لأجل أن يكون مفيداً للآخرين ومعتاداً على روح المساهمة والعطاء .
إن السؤال الذي ينشأ ويتطلب تنقيباً معظم الوقت ليس ذلك الذي يتساءل "كيف ينبغي أن نعيش إذا ما أردنا أن نكون سعداء ؟ " ، بل هو التالي "بعد أن نجحنا إلى حد بعيد بإزالة المسببات الجوهرية لفقدان السعادة البشرية وشيوع حالة البؤس والشقاء من حيواتنا والمتمثلة في اللاعدالة الاجتماعية واسعة النطاق، والمجاعة، والطاعون والأوبئة الأخرى، واليقينية شبه الحتمية بالموت المبكّر، كيف يمكن بعد كل هذه النجاحات الحاسمة أن تظل السعادة عصية على الكثيرين منّا ؟ ماالذي فشلنا في تحقيقه وكان مقدراً له أن يقودنا في المسالك المراوغة للسعادة ؟ وماالأمر الذي يمكث بداخلنا (أو في العالم الذي خلقناه) والذي من شأنه أن يجرّنا إلى الخلف دوماً ونحن نلهث في طلب السعادة الموعودة ؟
هوامش المترجمة
* فنسنت دي بول Vincent de Paul ( 1581 - 1660 ) : قس فرنسي كاثوليكي كرّس نفسه لخدمة الفقراء، وقد طوّبته الكنيسة الكاثوليكية قديساً عام 1773 . يوصف عادة بِـ ( رسول الإحسان الأعظم ) .