في 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1980، قررت مغادرة العراق بعد ستة أسابيع من اندلاع الحرب العراقية - الايرانية ودعوة مواليد مجدداً للخدمة العسكرية على الجبهة، زورت التصريح الداعي لتأجيلي الخدمة في دفتر خدمتي العسكرية، حصلت على جواز سفر بطريقة هوليوودية وقررت الشروع بمغامرة غير محسوبة العقبات، ركبت الباص من الصالحية في ساعة متأخرة من الليل، باتجاه أسطنبول، لأنطلق من هناك باتجاه أوروبا، ونجحت بعبور الحدود البرية عن طريق زاخو، كانت تلك أهم عقبة، لأن بعد ذلك من اسطنبول كان الأمر بسيطاً، خاصة وأن السفر آنذاك عموماً بالنسبة لعراقي عبر أوروبا لم يكن صعباً، خاصة إذا حمل في جوازه فيزا لبلد أوروبي شمالي رأسمالي.
أتذكر: باستثناء هنغاريا التي طلب مني رجال حدودها العودة إلى بلغراد وأخذ فيزا مرور عبرها لمدة ثلاثة أيام، لم توقفني أية شرطة حدود مر بها قطاري الذي أخذته من اسطنبول إلى برلين الغربية، لا البلغار ولا اليوغسلاف ولا التشيك، حيث كنت أحمل في جوازي فيزا زيارة سياحية لمدة ثلاثة شهور إلى "المانيا الاتحادية وبرلين الحرة" كما كان مكتوباً حرفياً في ختم الفيزا، في جواز سفري.
قد أكون رجلاً محظوظاً بكل ما حصل لي وواجهته في المنفى، سواء فيما يتعلق بحصولي على مقعد لدراسة الأدب الألماني في جامعة هامبورغ وبسرعة نسبية، أو سواء فيما يتعلق بمصادفتي للعديد من الناس الذين لم يبخلوا بمساعدتي ذات يوم. وكلما تذكرت تلك الفترة الأولى من منفاي، كلما خطرت على بالي المناسبات السعيدة، أكثر من لحظات التعاسة. صحيح أنني وبعد رفض السلطات الالمانية لطلب اللجوء السياسي الذي تقدمت به، كنت عرضة للحبس والطرد، لكنني كلما قارنت ذلك، بالحياة التي عشتها بالتوازي من ذلك، كلما شعرت بأن كفة الميزان تميل للجانب المحظوظ، لم يغادرني الشعور إلى أنني من سيربح الرهان في النهاية، كنت أعرف مهزلة طردي، ليس لأنني في حينه كنت أواصل في جامعة هامبورغ دراستي للأدب الألماني التي سبق وأن بدأتها في جامعة بغداد، أو ليس لأنني كنت أعرف أن البلاد التي هربت منها، العراق، والبلاد التي دخلت الحرب معها، إيران، كانا يتزودان بسلاح ألماني: العراق يستورد من المانيا الغربية بقايا الغاز المتبقي من الحرب العالمية الأولى، وإيران تستورد من المانيا الشرقية أقنعة الوقاية من الغاز، أمر مفهوم، لا حروب أو قتل ودمار، لا جوع وتشرد، بدون تجارة وسلاح. بل لسبب بسيط: التضامن الذي حصلت عليه من المحيطين بي، من زملائي طلاب الجامعة أو خارجها، جعلني اشعر بأنها مسألة وقت وسأنتهي من كل الصعوبات التي ستواجهني.
لم يكن الجو العام المحيط بالمهاجرين في المانيا (لكي لا نتحدث عن كل أوروبا)، وصل إلى الدرجة التي وصل إليها اليوم. الصورة التي ارتسمت في ذهن الناس آنذاك عن االمهجرين غير تلك التي بدأت تستحوذ عليهم لاحقاً، خاصة في العقدين الأخيرين، صورة العربي مثلاً ارتبطت ولسنوات طويلة بصورة المصري عمر الشريف، هذا ما كنته أنا بالنسبة لزميلاتي الطالبات، لم يكن آنذاك أسامة بن لادن، أو البغدادي، الإرهاب كان يحمل وجهاً آخر، "جناح الجيش الأحمر" أما ما خص المهاجرين من أفريقيا، فقد ارتبطت صورتهم بالمغني الجامايكي بوب مارلي وبرقص الركي، فيما كانت صورة الأميركي اللاتيني تتحرك بين "اللاتين لوفر: العشيق اللاتيني"، وبين تشي غيفارا الذي أراد لعب دور المسيح ذات يوم، كل ذلك قبل أن يطبق فيروس العنصرية والكراهية والحرب، كانت أزمان أخرى، نعم اختلفت الناس عن بعضها، لكنها على الأقل تقبلت العيش إلى جانب بعضها البعض، بالتأكيد كانت المشاكل تحدث من وقت إلى آخر، لكنها لم تنته إلى الدعوة للطرد بهذا الشكل، بل وتصل للقتل والحرق.
ربما بدأ الأمر يتغير أو لنقل يتعقد منذ أن بدأت حروب البالقان، ثم لتكر المسبحة بعدها المسبحة مثل أحجار الدومينو، حرب تلي حرباً، حرب تلد حرباً، ومع الوقت ما عاد بالإمكان إحصاء أماكن الحروب ومواقعها.
تجارب للعيش
[post-views]
نشر في: 1 أغسطس, 2017: 09:01 م