TOP

جريدة المدى > تحقيقات > شارع الجمهورية في الناصرية... ذاكرة السياسة والثقافة والتظاهرات

شارع الجمهورية في الناصرية... ذاكرة السياسة والثقافة والتظاهرات

نشر في: 2 أغسطس, 2017: 12:01 ص

حين تختصر المدن ( في حقبة زمنية معينة) بشارع واحد يزدحم بالأحداث والوجوه والحاضنات ،  فأن ذلك الشارع سيغدو بعد هرم المدن أو تجدد شبابها  ، ذاكرة قوية  من الصعب على الزمن ان يفرض عليها شحوبه الذي طالما فرضه على كل مكان هامشي  . وأغ

حين تختصر المدن ( في حقبة زمنية معينة) بشارع واحد يزدحم بالأحداث والوجوه والحاضنات ،  فأن ذلك الشارع سيغدو بعد هرم المدن أو تجدد شبابها  ، ذاكرة قوية  من الصعب على الزمن ان يفرض عليها شحوبه الذي طالما فرضه على كل مكان هامشي  . وأغلب المدن الصغيرة ، في ازمنة نشأتها الاولى واطوار نموها البكر ، تختار لها بضعة شوارع  تدون على جسدها  تفاصيل وقائع ايامها بمختلف ألوانها وطعومها ، وتنقش في فضاءاتها  صور شخصياتها الاستثنائية او النمطية ، وتدس في ثناياها رائحة أمكنتها التي تشكل بمجموعها ملامحه الخاصة.

العريف حسين رخيص
في الناصرية التي ولدت  قبل 148 سنة  كمكان وليس كتاريخ ، ثمة شارع  قاوم الزمن واستمر حيا الى الآن ، هو شارع  الجمهورية الذي كان اسمه بالاصل (السوق الكبير) . هذا المكان تحديدا  ، وحين تبدأ أحاديث الذكريات عن عالم الثقافة والسياسة واحوالهما  ، يحضر هو أولاً  باعتباره  ذاكرة معبأة بخزين الاعوام السالفة ، تلك الاعوام التي كلما نأت وتقهقرت في جوف الأمس  تحول قبحها الى جمال بفعل الناستولوجيا العراقية المزمنة وبفعل سوء الظروف الراهنة دائما  . فعلى  رصيفيه المستباحين أبداً من قبل اصحاب المقاهي والمطاعم ومحلات الحلويات والملابس والاحذية والمكتبات  ، وفوق نهره الضيق ذي الامتار الاربعة ، كتب الادباء والفنانون والسياسيون والثوريون الذين بلا انتماء والفطريون الذين يتأرجحون في دنيا السياسة حسب تقلبات الاحوال ،   تاريخ مدينة شاء لها القدر ان تكون بانوراما ثقافة وابداع وسياسة وقتال مستمر على امتداد التاريخ .
وقد لاتكون بداية الكتابة هذه من العريف حسين رخيص الذي دفعته  وطنيته الفطرية  الى اغتيال القائد الانكليزي (جيفرسن) في أحد ايام شهر أيار من عام 1941 بعدما لاحقه متتبعا خارطة مسيرة اليومي .  فثمة أحداث مهمة اخرى بلا شك قد سبقته ، صنعها رجال كبار في الافعال ، قاوموا الوجود الاجنبي على ارض البلد ،  يقف في مقدمتهم الشاعر ورجل الدين الشهير  محمد سعيد الحبوبي  ، ولكن عظم ذلك الحدث  واستثنائية الجرأة التي إمتلكها ذلك الشاب الريفي تقودنا الى وضعه في صدارة ماكتب من قصص ومادون من أحداث فيه . لقد ترك ذلك الشاب الريفي البسيط توقيعه على أرض (الجمهورية) بصورة دم مسفوح لمستعمر بريطاني قطع البحار والمسافات الشاسعة وجاء  لكي يحتل مدينة الناصرية من بين ماإحتله من مدن العراق .

تأييد ثورة 14 تموز
إلا أن الدم وإن أسس له وجودا هناك فان طائر الحب لم يهرب من صدى الطلقات المرمية  اذ ظل يرفرف على  محلات المسلمين المجاورة لمحلات الصابئة وشناشيل اليهود القاطنين في أحد اجزائه ، حيث اتخذوا اقسامها العليا سكنا لهم واقسامها السفلى محلات تجارية اغلقت ابوابها لاحقا عندما حانت ساعة التهجير بعد اندلاع الصراع العربي الاسرائيلي الذي زج به يهود العراق قسرا . لقد  هاجر اليهود ولم يتركوا على ملامح الشارع سوى تلك الطرز المعمارية الجميلة التي زال اخرها قبل سنوات قليلة جدا ، حيث لم يسجل في كتاب المدينة ان معتنقي  هذه الديانة  كانوا اهل ادب او فن او ثقافة وانما كانوا تجارا فقط ، رغم ان المقاهي  القريبة منهم كانت تحبل  عصر كل يوم بعشرات السياسيين والمثقفين من مختلف التوصيفات الدينية والقومية  والايديولوجية. اولئك المثقفون والسياسيون ، على اختلاف انتماءاتهم  وبغض النظر عن  طبيعة ميولهم ، هم  أهم من صنع تاريخ ذلك الشارع  ، وبسببهم تحديدا ظل حضوره  مستمرا في حياة المدينة الى الآن .
 ففي عام1941 نظموا فيه  تظاهراتهم المؤيدة لرشيد عالي الكيلاني الذي أطاح بالوصي على عرش العراق عبد الاله ، وفي عام 1948 خرجوا منه منتفضين ضد معاهدة بورتسموث التي أابرمت بين المملكة البريطانية والمملكة العراقية ، وقد كان ليساريي المدينة دور بارز في قيادة تلك التظاهرات ونصيب كبير من الاعتقالات . وحين جاءت ثورة 14 تموز طار صوت الجموع المؤيدة الى بغداد من قلب ذلك الشارع  ، حاملا هتافات المثقفين الحالمين بزمن مشرق جديد ، بعدما كان قد طار صوت المؤازرة والتآخي منه ايضا ، الى جمهورية مصر العربية  خلال تعرضها  للعدوان الثلاثي في سنة 1956.

مقاهي اليسار والتقدمية
لقد كانت مقاهي شارع الجمهورية التي يصل عددها الى مايقارب خمسة عشر مقهى هي ينابيع حكايات ذلك الشارع ، فبين جدرانها كان يجتمع السياسيون متهامسين بحذر خشية سماعهم من قبل اذان رجال الامن المتواجدين بهيئة شحاذين او عمال اومجانين بلا جنون ، ويلتقي   الورثة الشرعيون للابداع  السومري من اجل النقاش وقراءة الصحف اليومية التي كانت تصل عند حدود وقت الظهر .   وقد كانت الاشهر من بين تلك هي مقاهي (التجار ، اللواء،  العروبة، ابو أحمد)  والأخيرة جلس على تخوتها كل ذوي الاسماء الابداعية الكبيرة التي حققت حضورا لافتا للنظر في سماء العاصمة بغداد فيما بعد .
فقد جلس هناك كل من الشاعر قيس لفتة  مراد والروائي عبد الرحمن الربيعي والمفكر عزيز السيد جاسم والشاعر رشيد مجيد والمطرب حسين نعمة  والقاص محسن الخفاجي  والمترجم احمد الباقري والناقد جاسم عاصي والرسام الذي سكن المانيا لاحقا وعمل في معهد شيللر  احمدالجاسم وشقيقه المغترب حيدر الجاسم والفنان المسرحي والرسام  كاظم إبراهيم وعازف القانون  حسن الشكرجي والملحن كمال السيد  وشاعر الاغنية جبار الغزي والممثل والمؤلف المسرحي عزيز عبد الصاحب  واسماء اخرى كثيرة .  وقد كانت اغلب تلك الاسماء يسارية الهوى اوالانتماء ولهذا اصبحت تلك المقهى ، رغم كونها اشبه بالمنتدى الثقافي ،  هدفا لعيون الشرطة ووكلاء الأمن خلال حكم الاخوين عارف وبدايات حكم البعث القمعي للعراق في عام 1968.
في حين احتضنت مقهى العروبة (ودلالة العنوان تعلن عن نفسها) اغلب العناصر من البعثيين  وذوي الميول القومية  الذين مكنتهم  الظروف السياسية من الوصول  الى مناصب سلطوية مهمة فيما بعد ،  وكان من بينهم كل من نعيم حداد وجاسم محمد خلف ، وحين نفي طه الجزراوي الى الناصرية في اواسط الستينيات ، كان يتردد عليها احيانا حسب ماذكره هو بالذات لدى استضافته في عام 1994 في الناصرية .

المكتبات بوابات المعرفة
ولم تكن المقاهي وحدها من خطّ لهذا الشارع تاريخه الثقافي والسياسي ، فقد كان للمكتبتين الوحيدتين( الاهالي و14 تموز)  دور في ذلك ، حيث شكلت مكتبة الاهالي مركز جاذبية يومي يتجمهر عن بابه المتعلمون وانصاف المتعلمين منتظرين وصول الصحف من بغداد لتبدأ  جولة التزاحم على اقتنائها خصوصا في الاوقات التي تطرأ فيها أحداث كبرى على العراق او المنطقة او العالم .
ولعل استحواذ هذه المكتبة على النصيب الاكبر من القراء راجع الى شخصية صاحبها الراحل  جبر غفوري الذي هو عضو في الحزب الوطني الديمقراطي( حزب كامل الجادرجي) ، فالرجل  لم يكن مجرد بائع تقليدي ، بل كان شخصية مثقفة ارتبطت بعلاقات وثيقة مع اغلب مبدعي المدينة . وربما لايكتمل الحديث عن البعد الثقافي لهذا الشارع إلا بذكر بناية (السراي) اللصيقة به والواقعة في بدايته تماما . ففي هذا الحيز الحكومي الواطئ الذي أعدِم فيه حسين ارخيص  قاتل جيفرسن ، دخلت حشود كثيرة من اليساريين والقوميين ، مقيدة الايادي لترمى في معتقله كسجناء رأي وفكر ، فيصبح الحد الفاصل بينها وبين فضاء شارع الجمهورية الحر ، جدار من الطابوق يمثل مصدا قاهرا  ليس لها القدرة على تهديمه . ومن النادر ان ينجو احد المثقفين خصوصا اولئك الذين تأثروا بالفكر الوجودي والعدمي من الدخول الى هناك في فترة الستينيات ،  ليخرج منه بعد حين ويعاود الجلوس في مقاهي شارع الجمهورية واصفا  بسخرية طرق الاستجواب الساذجة التي تعرض لها  .
ان وقوع بناية السراي هناك،  حوّل الشارع الى  جزء من ساحة المعركة المؤقتة التي اندلعت مابين الحرس القومي والشرطة في 18 تشرين من عام 1963، فكان أن سجلت السياسة  لغة رصاصها في كتاب شارع الجمهورية . وبلاشك ان ذاكرة هذا الشارع لم تنسَ خطوات الزعيم عبد الكريم قاسم التي مشت عليه ذاهبة الى اقصاه لتتلذذ بطبق (باجة) من مطعم سبتي الشهير.
فقد كان انذاك ضابطا في الفوج الثاني من اللواء 14 ، وكان يرتاد احدى المقاهي القديمة مجالسا بعض اصدقائه ومنهم شخص اسمه  (راضي) وكثيرا ماكان ينهي يومه في ذلك المطعم هو والصديق المذكور .
ومن يدري ، فلربما ان الزعيم ، الرجل الذي لم ينس صاحب المطعم ودعاه الى مقره حين اصبح رئيسا للوزراء ، قد  تنسم رائحة الثقافة والسياسة والفقر  من هنا وانتعشت روحه الثورية ، ليفجر لاحقا ثورة الفقراء التي وأدها المجرمون لاحقاً .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حملة حصر السلاح في العراق: هل تكفي المبادرات الحكومية لفرض سيادة الدولة؟
تحقيقات

حملة حصر السلاح في العراق: هل تكفي المبادرات الحكومية لفرض سيادة الدولة؟

 المدى/تبارك المجيد كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً، والظلام قد بدأ يغطي المكان، تجمعنا نحن المتظاهرين عند الجامع المقابل لمدينة الجملة العصبية، وكانت الأجواء مشحونة بالتوتر، فجأة، بدأت أصوات الرصاص تعلو في الأفق،...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram