حتى سبعينيات القرن الماضي كان تجّار التمور من أهل البصرة يسمّون حمولة الـ 100 مَنٍّ بصري، من التمر في المهيلة بـ (الجاية) -الجيم أعجمية- ولكي تصل المهيلة الى(جرداغ) مكبس الحاج نعيم الداوود، في مهيجران، على النهر المسمّى باسمه (مكبس الحاج نعيم) فقد أمرني أبي ان أصعد على ظهر المهيلة، وأجلس عند حيزومها الطويل، مضمخا برائحة زيت كبد الحوت والخشب المهاوجني الخشن الغليظ، ومن نقطة عند منتصف نهر السراجي، أبحرنا، سحب البلّامة حبال المهيلة ودفعوا بها مع اول الجزر، الذي سيكون قد هبط كثيرا ساعة بلوغنا الجسر الحديدي، الذي بناه الجيش البريطاني ولكي نمرَّ من تحته بسلام آمنين.
  لا تستغرق الرحلة سوى ساعات ثلاث، لكنَّ المهيلة، بحمولتها الكبيرة ستتهادى على سطح الماء المنسرح لنهر(السراجي) وإذا كانت قد اتخذت من وسط النهر ممراً آمنا لها، فسيكون عليها أن تندفع محاذية الساحل الغربي لشط العرب، حال خروجها من النهر، هناك، حيث سيكون بمتناول البلامة قطف عناقيد العنب وتناول الرطب البرحي من أي بستان يمرون به. العذوق والعناقيد تتدلى على الرؤوس، كذلك يكون الورد الجهنمي والدفلى الابيض والوردي منه، منهمراً على صناديق التمر، ليس في المشهد رومانسية ما، أبداً. فرحلة ما، أي رحلة بقارب كبير(مهيلة) محمّل بالتمر، منسرب مع مياه المدّ من نهر السراجي بالغٍ شط العرب الكبير لا بد أن تكون محفوفة بالورد.
  بعيد الظهيرة بقليل، والشمس بيضاء، يُسار بها الفرسخ والفرسخان وصلنا المكبس، كان نهر مهيجران أعرض من نهر السراجي بقليل، سفين كثيرٌ كانت عند مدخله،  وغابة النخل والفاكهة أكثر سواداً منها حول غيره، أومأ الناطور، الذي كان ينتظرنا عند الشريعة الى البلامة، فرمى احدهم بالحبل اليه، فعجّل يوثقه الى جذع شجرة التوت العملاقة عن الشريعة، وبعد لحظات كانت سفينتنا الخشب قد آخت الحجر والطابوق، قال أحدهم باسم من هذه الجاية؟ فقلت عبد العزيز عبد الله. أما أنا فلا اسم لي، كنت ابناً لعبد العزيز لا أكثر، ولمّا أبلغ العشرين بعد، لكنني كنت قد قرأت للتو كتابا واحداً لسلامة موسى وهكذا تكلم زرادشت والجزء الاول والثاني من ديوان الجواهري وشيئاً من شعر بدر بن شاكر السياب. كان أبي يعرف من عائلتهم شخصاً واحدا يسميه(ابن سياب) وهو صاحب شدّة (فرقة) للخشابة.
  أخذني الناطور الى (أوفيز) مكتب الحاج نعيم الداوود، صاحب ماركة تمور الفلاحة الشهيرة، كان مكتبه في البصرة، بشارع الكويت، أما مكاتبه الأخرى (الثاني والثالث والرابع) فقد كانت على التوالي بغداد، لندن، نيويورك، فهو واحد من ثلاثة باش كتّاب عملوا تحت إمرة التاجر البريطاني(أندرو ويت)، صانع تجارة التمور في البصرة وعرابها في عشرينيات وثلاثينيات وخمسينيات القرن الماضي. رجل عليه أهاب كبار التجار، طويل، يملأ دشداشته البيضاء حسنا ووقاراً، أكبر فيَّ روح السفر بين الانهار وحمل التمور الى المكابس وأثنى على معرفتي في الشعر حين حدثته، ومن خزانته أخرج عدداً من جريدة الجمهورية، ثم أطلعني على قصيدة للجواهري منشورة فيها.
 الآن، أتامل أنهار البصرة وهي تردم والسفن وهي تتفكك والنخيل وهو يهلك وتجارة التمور وهي تبور والشعر وهو يتراجع في دارميات وأبوذيات تلوكها أفواه العاطلين عن الوعي.