في الثامنة والثمانين من عمرها، ما زالت أنيس فاردا، زاهرة كفنانة، عُرفِت طويلاً كونها صانعة أفلام بشكل رئيس، وهي المهنة التي اتخذتها لأكثـر من نصف قرن. والآن فإنّ هذه الأيقونة الفرنسية تصف بمرح "حياتها الثالثة"، وهي الفترة التي اكتسبت صورها الفوتوغراف
في الثامنة والثمانين من عمرها، ما زالت أنيس فاردا، زاهرة كفنانة، عُرفِت طويلاً كونها صانعة أفلام بشكل رئيس، وهي المهنة التي اتخذتها لأكثـر من نصف قرن. والآن فإنّ هذه الأيقونة الفرنسية تصف بمرح "حياتها الثالثة"، وهي الفترة التي اكتسبت صورها الفوتوغرافية وتجهيزاتها في الفراغ ومنحوتاتها اعترافاً عالمياً.
زارت فاردا مؤخراً مدينة نيويورك من أجل معرض كشف جديد في "غاليري بلوم وبو" ويمتد على مدى أكثر من ستين سنة من تعبيرها الإبداعي. تعرض الأعمال تنوعها الجمالي أثناء تواجدها في المدينة من أجل افتتاح المعرض. وقد تحدثت فاردا حول هذا المعرض وكيفية وجود فنها التشكيلي في سياق مهنتها.
* في المعرض سلسلة من الصور الفوتوغرافية التي عرضت لأوّل مرة في الفناء الخاص بك على مدى خمسين سنة مضت. ما هي تجربتكِ الأصلية في عرضها؟
- صنعتُ هذه الصور عام 1953 و1954 وطبعتها بنفسي في مختبري. في ذلك الوقت صنعت خمسين أو سبعين صورة، لا أتذكر كم من الصور ألصقتها بمادة شبيهة بالخشب. قدمتها في فنائي وعلقتها على الجدران ومصاريع الأبواب.
كنت متأثرة من رؤيتها على حائط نظيف في غاليري جميل بنيويورك، إذ كانت أصلاً في الخارج لمدة أسبوعين مهما كانت حالة الجو. بعدئذ لم أخبر أيّ شخص ولم أطلب من أيّ صحف أو صحفيين لكي يأتوا.
وضعت الورق في البقالة والمخبز على شارعين أو ثلاثة حولي. الناس في جواري جاءوا لكي يزوروني، وبعضهم يسمّون فنانين، مثل براسي الذي عاش جواري. الآن بعد خمسين سنة، ها هي الصور على جدار الغاليري وتسمى "غلات الكروم"- أشياء قيّمة – وأشعر بالغرابة من ذلك الأمر.
* هل تستطيعين أن تخبرينا عن بعض الأعمال في المعرض؟
- طلب غاليري"بلوم وبو" أن تكون فترة المعرض من سنواتي المبكرة في الخمسينات وتمتد إلى ما صورته في السنين العشر الأخيرة. في هذه الفترة اخترعت طرقاً أخرى لمشاركة الصور والصوت في السينما، وتحولت من صانعة أفلام قديمة إلى فنانة بصرية صغيرة. أنا أحب بالأخص الصورة ثلاثية الألواح وهو شكل فني يقسم اللوحة إلى ثلاثة أقسام استعمل في لوحات القرن السادس عشر الفلمنكية.
أحاول أن أجمع ثلاث صور في الوقت نفسه. في السينما حين يظهر شخص خارج الإطار لا تعرف إن كان هذا الشخص قد ذهب. دائماً أحاول أن افكّر بهذا حين أرى صورة؛ خيالي أكبر من الشاشة. في لوحاتي ثلاثية الألواح التي تحيط بالصورة المركزية، أود أن أكون قادرة على فتح لوحات جانبية لما سيكون خارج الشاشة.
فعلتُ الشيء نفسه مع صورة التقطتها في مرسيليا في عام 1956. أرسلتُ لكي أصنع أفلاماً وثائقية لبناية كوربوزيه لصالح إحدى المجلات وذهبت إلى السطح والتقطت صورة.
كل لقطة تُساءل هؤلاء الناس من أنتم؟ وما الذي يحدث هناك في ذلك الوقت؟ هل يعرفون بعضهم البعض؟ هل يأتون معاً هنا؟ هذا ألهمني في السيناريو القصير الذي كتبته وصورته في السنين اللاحقة بعنوان "الناس من الشرفة" – 2007.
أخذت الناس الذين التقيتهم إذ لم يكونوا حتى ممثلين، وصديقي، وهو مصمم ديكور بنى جداراً مثل المصطبة في الصورة. طلبت من الناس لكي يمثلوا السيناريو كأنهم كانوا عائلتين لديهما لقاء.
ربما في الحياة الحقيقية، هؤلاء الناس لم يعرفوا كل منهم الآخر، لكني عملت سيناريو الفيلم. في الغاليري على الجدار نفسه الصورة الجامدة قريبة للفيديو وبالحجم نفسه.
* ما هو مصدر إلهامك في صنع الماكيتات التي هي إعادة تكوينات مصغرة لأكواخ أكبر بنيتِها باستعمال مخزون الأفلام؟
- تستهويني جداً لاقطات فضلات الحصاد والأشياء التي يجري تدويرها. كما تعلم فإن عروض الأفلام تغيرت بشكل كبير جداً، إذ لم تعد الآن تحتاج إلى مطبوعات فيلمية. الناس تشاهد الأفلام على الحاسبات الصغيرة، وحتى على الهواتف الذكية مما يثير الحزن في نفسي. أشعر بالحزن على كل تلك الصناديق الحاوية لشرائط 35 ملم التي ألهمتني في بناء الأكواخ من مخزون الأفلام الحقيقية.
بنيت أحدها من مخلفات فيلم "الكائنات-1966" والآخر من فيلم "حب الأسود-1969 ". من المسلّي التفكير بتلك الأفلام وقد أصبحت أكواخاً وجدراناً شفافة. يمكن للناس أن يدخلوا وينظروا للجدران ويميزوا الصور. كنت أهتم بوضع أجزاء من كاثرين دينوف وميشيل بيكولي في ارتفاع جيد لكي يتعرف الناس عليهما.
كلنا يحب الأكواخ. حين كنا أطفالاً كنا نعلمها بالنسيج في الغابات، لذا فهي تبدو مثل رغبة طفولية لصنعها من المطبوعات المتروكة والمهملة. يقدم الغاليري المصغرات التي أصنعها بإعادة تصوير الأفلام بكاميرا سوبر8.
* يبدو أنك تخلقين حواراً مع الماضي وتعيدين تصور تجهيزاتك في الفراغ وصورك الفوتوغرافية، فهل يعني هذا إعادة استدعاء الذاكرة لك؟
- هدفي ليس التذكر، بل بعث الماضي لصنعه الآن. مشهدي المفضّل هو ساحل البحر الذي التقطته في قطعة تجمع بين التصوير الفوتوغرافي والفيلم والرمل (فيلم ساحل البحر). حاولت إعادة اكتشاف الصور الفوتوغرافية التي التقطتها وحولتها إلى صورة ثلاثية الألواح. الغاليري يضم أيضاَ ثلاث صور شخصية: واحدة حين كان عمري عشرين سنة وواحدة حين كان عمري أربعين سنة، والثالثة حين كان عمري ثمانين سنة. وكأني أقول ما زلت هنا. إنها تظهر رحلة حياتي كفنانة.غالباً ما صنعت الصور الفوتوغرافية في حياتي المبكرة ثم صناعة الأفلام في حياتي التالية، وأنا الآن أصنع التجهيزات في الفراغ على الرغم من أني أكملت الآن فيلماً وثائقياً مع الفنان "جي آر"، لهذا لم أهجر صناعة الأفلام تماماً. المُشاهد في دار العرض يختلف عن المُشاهد الذي يأتي للمتحف أو الغاليري. لديّ معرض كبير جداً في باريس في "فودسيون كارتييه"، ولديّ واحد في المكان الذي ولدت فيه بالقرب من بروكسل يدعى "إكسيل". أنا سعيدة جداً بالناس الذين يرغبون أن يروا عملي. إنه يوسع من نشاط جوانبي وذراعيَّ وجسدي..
* كيف يشي فنكِ البصري غير الفيلمي بصنعتك السينمائية على مدى خمسين سنة؟
- أريد أن أصالح ما بين المطبوعات الفضية والرقمية أي الماضي مع الحاضر. أحياناً أصنع عملي بالنسخ السالبة قياس 35 ملم والفيديو مازجة بين الأسود والأبيض والملون وبين الصور الجامدة والحركية. في نهاية حياتي لا أرغب أن أقول أن السينما هي ضد الفيديو. أريد أن أستعمل كل تلك الأشياء وأناور بها واحتفظ برغبتي في التماس مع الناس. لا أن أجعلهم يبكون بل ملامسة الحس لديهم. أنا أجمع ما بين العناصر التي تمس ذاكرة حياتك الخاصة. أريد من الناس أن يعودوا إلى أنفسهم؛ لا أريد أن أفرض أي شيء.
* كيف تشعرين وأنت تلتفتين إلى تلك الصور الفوتوغرافية من الفناء الخاص بك؟
- أشعر بالكُبُر؛ تعلمت الكثير وعانيت الكثير وتمتعت بالكثير. لكني أعتقد بأني مباركة في الجزء الأخير من حياتي، لأني حصلت على فهم أكبر وحب كبيرين لعملي. اعتقد بأني مدللة بطريقة ما لأني يمكن أن انتظر أطفالي يزورونني ويشاهدون التلفزيون وينامون منتصف الوقت. عمري على وشك أن يبلغ التاسعة والثمانين، ولدي حياة مميزة متحمسة، لهذا أنا أشعر بأني محظوظة جداً. تثيرني لقاءات الناس في الشوارع إذ يقولون:" شكراً لك منحتنا السعادة".