TOP

جريدة المدى > عام > المثقف العراقي.. وسقف الامتيازات الآيل للسقوط عليه!

المثقف العراقي.. وسقف الامتيازات الآيل للسقوط عليه!

نشر في: 5 أغسطس, 2017: 12:01 ص

يمكن القول إن سقف الامتيازات المادية والمعنوية التي كان المثقف العراقي، أديباً وكاتباً وفناناً وقارئاً، يتمتع بها، بدرجةٍ أو بأخرى، خلال نصف القرن الماضي، قد هبط إلى حد أنه يوشك أن يُجهز على البقية المتبقية تحته. ويكفي أن نذكر بعض المقولات المأثورة ا

يمكن القول إن سقف الامتيازات المادية والمعنوية التي كان المثقف العراقي، أديباً وكاتباً وفناناً وقارئاً، يتمتع بها، بدرجةٍ أو بأخرى، خلال نصف القرن الماضي، قد هبط إلى حد أنه يوشك أن يُجهز على البقية المتبقية تحته. ويكفي أن نذكر بعض المقولات المأثورة المتداولة آنذاك لنعرف كم كان السقف عالياً بالرغم من بؤس حال الدولة آنذاك ومع كل النكسات والعثـرات التي مر بها البلد، والأنظمة الغبية التي حكمته. فكان يقال، مثلاً، للتدليل على شاعرية العراقيين عموماً وتفرد العراق بها إن في العراق من الشعراء بعدد النخيل الذي فيه، وكان يقدّر بثلاثين مليون نخلة، بينما كان عدد السكان، وقتَ المقولة، خمسة ملايين أو يزيد قليلاً فقط!

وكان يقال للتأكيد على انتشار الثقافة وحب القراءة فيه أن مصر تكتب ولبنان يطبع والعراق يقرأ، مع كل تلك الأمية التي كانت ضاربةً فيه آنذاك!
وكانت المدن، والمحلات العراقية، تتفاخر بعدد الأدباء والفنانين الذين فيها، بل وتنسب إليها أحياناً مَن ليس من أبنائها من هؤلاء! وما يزال البعض من مثقفي مدينة الكوت، على سبيل المثال، يُدرجني بين أدبائها، حين يكتب عن بعض جوانبها الثقافية، مع أني لم أعش فيها سوى ثلاث سنوات تقريباً، في أواخر الستينيات، وصدرت لي فيها مع شعراء آخرين من أبنائها الأعزاء مجموعة شعرية مشتركة واحدة!
وكان للأديب عموماً موقعه الاجتماعي المميز، وهالته السايكولوجية في الوسط الذي يكون فيه، حتى أن صديقاً لي، ليس بأديب، تأبَّط  ذات يوم "خاولياً" من تواليت مبنى اتحاد الأدباء العراقيين وخرج، على غرار الشاعر الجاهلي الذي تأبط شرّاً، باعتبار أن الجواهري الكبير قد مسح به، ولا بد، وجهه أو يديه، كما قال!! وإذا كانت هذه الواقعة أشبه بالنكتة، أو كان ذلك مجرد تبرير من صاحبي لفعلته التي تبدو تافهة إزاء نوعية "الخاوليات" التي يتأبطونها اليوم هنا وهناك، فإن هناك من الشواهد الأخرى على أهمية المثقف والأديب العراقي آنذاك ما هو واقع جدي ومضيء يعرفه الذين عاصروا تلك الفترة، بالتأكيد.
وقد بدأ السقف ينخفض معنوياً بدءاً من استيلاء التجمع القومي الديني الرجعي على مقاليد الأمور عام 1963، وتحوّل بعض الأدباء والفنانين و"المثقفين" في الستينات فصاعداً إلى أبواق زاعقة تابعة للسلطة، وبلغ الانحطاط ذروته في زمن السفّاح الطاغية الذي أُلِّفت في "معجزاته" الكتب، ونِيلت في دراسة فكره الجهنمي المريض شهادات الدكتوراه، وقيلت في كوارثه القصائد العصماء، وأُنشدت تغزلاً بمحاسن وجهه الرهيبة الأغاني! وما تزال بيننا اليوم عيِّنة لا بأس بها من مدّاحي ذلك السلطان وسلاطين وقتنا هذا، في واجهة النشر اليومي، والنشاط الثقافي، والسياسي، والأكاديمي، شاهداً على مدى ما يمكن أن يصل إليه "المثقف" من انحطاط إذا انحطّ!
وإذا كان سقف الامتيازات المادية مرتفعاً بطبيعة الحال بالنسبة لتلك الجوقة الهزيلة الخَلق والخُلُق من المطبّلين للطاغية وزبانيته، على وقع "أعطوه ألف درهم"، فإنه كان بالطبع في أدنى حالاته بالنسبة للأباة الشرفاء من الأدباء والفنانين آنذاك، هذا إذا سلم الواحد منهم من الأذى نتيجة احترامه لنفسه ولأدبه أو فنه النظيف.
وإذا طوينا تلك الصفحة الكالحة المقرفة من تاريخ الثقافة العراقية، وتفقّدنا سقف الامتيازات في زمننا هذا، لوجدنا أنه ظل في حالة انخفاض وارتفاع لفترة من الوقت، مادياً ومعنوياً، حتى انتهى به الأمر إلى الهبوط والتصدع لدرجةٍ صار معها آيلاً للسقوط في أية لحظة على مَن تبقى تحته من أدباء وفنانين محترمين. وقد شهدنا من آيات ذلك:
• انتقال التصارع على السلطة والنفوذ والمنافع المادية حتى إلى الاتحادات والجمعيات الثقافية، طلباً لامتيازات توفرها مثل هذه المواقع لرؤسائها واللّملوم المحيط بهم في مثل هذه الأحوال، وليس ارتقاءً بثقافة لم يعد بالإمكان الارتقاء بها في ظل هذه المرحلة الاستثنائية من التجهيل العام!
• سطحية مضامين المهرجانات والملتقيات الثقافية وأشكالها، تبعاً لسطحية ثقافة القائمين بها والأغراض المرجوة منها.
• قصور الاتحاد العام للأدباء والكتاب وغيره من الاتحادات الثقافية في متابعة شؤون بعض مَن يتعرض من أعضائه أو غير أعضائه المثقفين لأحوال سيئة على الصعيد الصحي، أو الاجتماعي، أو الإبداعي.
• خلو العراق العظيم من صحيفة ثقافية واحدة قائمة بذاتها، وليست ملحقاً أسبوعياً لصحيفة يومية.
• بؤس أحوال المثقفين من أدباء وفنانين في المحافظات بوجهٍ خاص بحيث لم يعد المرء يسمع عن موهبة متميزة جديدة غير التي ما تزال تلوكها من حينٍ لآخر بعض الصحف اليومية العامة.
• انعدام وجود أية مؤسسة عامة في هذا العراق العظيم لتوزيع المطبوعات العراقية داخل البلد وخارجه، دعك من مؤسسات محترمة خاصة للتأليف والترجمة والنشر، عدا هذه الدكاكين الابتزازية البائسة المتربصة بأصحاب الحاجة من المؤلفين للنشر في شارع المتنبي العظيم!
• عجز المفكرين العراقيين عن إيجاد وسيلة لطبع مؤلفاتهم وتوزيعها مع نيل حقوقهم المادية المترتبة على ذلك في الوقت نفسه، وتوقف الكثيرين منهم عن الإنتاج والإبداع .. والتفكير، بالتالي!
• انخفاض المستوى الفني والفكري لمعظم ما يصدر من كتب ويُنشر من نصوص ومقالات .. خاصة مع دخول الانترنت على الخط وانعدام الرقيب النقدي الذي يتحكم موضوعياً بصلاحية المادة للنشر.
• انعدام التألق الإبداعي في الانتاج الثقافي تقريباً فلا من جواهري جديد، أو نازك ملائكة، أو بياتي، أو جواد سليم، أو فرمان، أو على جواد طاهر .. ربما لأن الوضع الذي نتحدث عنه الآن لا يفرز قاماتٍ عالية في أي مجال!
• تضاؤل فرص العمل والإبداع أمام كتّاب أدب الأطفال ورسّاميه مع اضمحلال نشاط دار ثقافة الطفل التابعة لوزارة الثقافة، واستنكاف المجلات الثقافية والصحف اليومية في العراق العظيم من الاهتمام بثقافة الطفل بأيّ شكلٍ من الأشكال، مع إن من الواجب الإنساني عليها المساهمة في رعاية هذه الشريحة الاجتماعية الغضّة الواسعة، وهي بالملايين، بما تستطيع الصحافة تقديمه لها يومياً من نتاج فكري وفني هادف. فيستفيد الأطفال القرّاء، بذلك ، ويتطور أو ينشط كتّاب أدب الأطفال وفنانوه، ويتألق وجه الحياة اليومية.
• غياب اهتمام الصحافة العراقية تماماً تقريباً بالتراث الأدبي القديم، أحد الأركان الأساسية لثقافة الأديب العراقي المحترم في الماضي، خاصةً بعد جعل مجلة (المورد) التراثية التي تصدرها دار الشؤون الثقافية، مقتصرةً على الوسط الأكاديمي فقط، من دون إيجاد منفذ آخر لكتّاب أدب التراث الأدبي الأصيل الجميل وقرائه والمهتمين به لمختلف الأغراض الفكرية.
• تقلص قيمة المكافأة النقدية في الصحف والمجلات عموماً بطريقة "شَيلوكية" بائسة، وحجبها عن القصة والشعر تماماً.
• تراجع السلطة " سكتاوي" عن منحة الأدباء والفنانين والصحافيين السنوية، من دون أي تداول في هذا الشأن مع أصحاب الشأن، أو في الأقل تحديد زمن معلوم لهذا التراجع "السكتاوي" المعيب!   
• مهزلة العجز المالي والمهني غير المسبوق في وزارة الثقافة، بعد فرهود "بغداد عاصمة للثقافة العربية 2014" السيّئ الصيت.
بقول الفيلسوف اليوناني القديم هرقليطس، إن المرء لا يسبح في النهر نفسه مرتين، لأن المياه التي يتكوَّن منها النهر لا تبقى في مكانها بل تمضي لتأتي مياه غيرها وهكذا. وعلى هذا فإن علينا كما يبدو الإقرار بأن الشعب العراقي اليوم لم يعد ذلك الذي كان قبل نصف قرنٍ مضى أو عقود، لأن مياهاً كثيرة قد تغيرت فيه وحل غيرها مراراً عديدة. وبالتالي فإن شعب تلك التقاليد والمفاهيم والقيَم الجميلة التي عرفناه بها لم يعد موجوداً. فما هو موجود هو شعب بمفاهيم وتقاليد وقيم أخرى، منها ما أوردناه أعلاه من "عيوب" ليست، في الحقيقة، عيوباً ربما إلا في نظر أفرادٍ من الشعب الذي كان!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

نص ونقد.. العبور والانغلاق: قراءة في قصيدة للشاعر زعيم نصّار

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

مقالات ذات صلة

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه
عام

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

كه يلان محمد الرسائل التي خطّها المشاهيرُ تضمُّ مُعطياتٍ قد تكملُ جوانبَ من مشروعهم الإبداعي وتكشفُ طقوسَهم في الكتابة ورؤيتَهم لما يجبُ أن يتصفُ به المبدعُ في حياته ومساره الفكري ومواقفه الإنسانية، كما أنَّ...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram