اهتماماً منا بهذا الفن الأدبي والاجتماعي والسياسي أيضاً..، ورغبة منا في الحث على متابعته والإسهام فيه، رأينا أن نقدم ورقة عن طبيعة كتابة السيرة وتطورها مؤكدين على المكتوب بالانكليزية منها، ومعتمدين على مصادرها في تلك اللغة، لنبين العناصر الجديدة التي
اهتماماً منا بهذا الفن الأدبي والاجتماعي والسياسي أيضاً..، ورغبة منا في الحث على متابعته والإسهام فيه، رأينا أن نقدم ورقة عن طبيعة كتابة السيرة وتطورها مؤكدين على المكتوب بالانكليزية منها، ومعتمدين على مصادرها في تلك اللغة، لنبين العناصر الجديدة التي أغنت محتواها وأعانت على جعلها كتابة مقروءة للمتعة وللفهم ولكشف ما في حياة الناس.
فالسيرة اليوم فن أدبي متطور، وهي كانت في بريطانيا، مثلما كانت عندنا، صفحات عن هذه لشخصية وتلك في كتب التاريخ وتاريخ الأدب، وقد نجدها بشكل واسع، لكن بأشكالها الأولى، في دواوين الشعراء وهم يتحدثون عن أنفسهم (ترجمة ذاتية) أو عن ناس يخصونهم، أبناء أو زوجات أو أصدقاء .. كما لا نعدم صفحات مطولة من الروايات الكبرى عن حياة هذه الشخصية (المعروفة) أو تلك مما تشير له بعض الروايات الانكليزية، ولعل شخصية الأمير أندريه وبيير عند تولستوي "الحرب والسلام" من الأدب الروسي، مثال معروف أكثر مما نعرفه عن الشخصيات الحقيقية وراء الأسماء في "جين أير" و "مرتفعات وذرنج" وما تشير إليه بعض شخصيات ديكنز في "اوقات عصيبة" Hard Times والدار الشاحبة Bleak House، وسواها كثير مما كشفته الدراسات، ثم شخصيات لورنس المعروفة والتي يكشف فيها الروائي المعروف الكثير من نوازع وتفاصيل حياة شخوصه. و في الشعر يمكن أن نجد في قصائد توماس هاردي عن زوجته الأولى المتوفاة، أمثلة نكتفي بها شاهداً في الشعر.
في أدبنا العربي القديم لم يبتعد فنا الترجمة الذاتية Aoutobiographic والسيرة Biography عن بعضهما، وظلاً فنين متقاربين نقدياً وغير مستقلين عن أخبار التاريخ أو قصائد المديح أو أحاديث الرواة، كما لم تظهر دراسات مهمة تعني بهذين الفنين، نستثني في الوقت الحاضر كتاب الدكتور يحيى إبراهيم عبد الدايم (مصر) وهو رسالة دكتوراه، درس فيها درساً جاداً الترجمة الذاتية في الأدب العربي الحديث (بيروت 1974).
في صفحات قليلة سأهتم بالموضوع الثاني "السيرة" وسأستعرض تطورها، مؤكداً على السيرة الانكليزية، وعلى أهم العناصر التي تكون طبيعة هذا الفن، والذي قد يسحب تطوره ومتطلبات كتابته البعض لأن يدعوه علم السيرة، لا فنها!
لا أود الآن أن أقدم سرداً زمنياً (كرونولوجيا) لتاريخ السيرة الانكليزية، وإلا لتوقفت عند كتابات أدافنن – المؤرخ الأيرلندي عن حياة كولومنا وحياة الفريد العظيم بقلم آسر (الويلزي) وولتن وجونسن وأشرت بتمجيد خاص إلى بوزويل والسيرة الفكتورية وذكرت مور ولوكهارت ولتطرقت لتفصيل يغنينا إلى سيرة غوته بقلم هنري جورج يولس وانتهيت بـ فراود وستراتشي والأستاذ نيكلسن الذي تعرفونه، كل هذه المعلومات ممكنة متابعتها في كتاب السيد هارولد نيكلسن "تطور السيرة الانكليزية". لا أظن الاكتفاء بها ينفعنا اليوم ونحن نريد أن نقدم للمثقف العربي العناصر الجديدة المضافة والتي غيرت وجه السيرة القديمة وصنعت السيرة الحديثة وإن كانت كلمة "حديث" موضع إشكال، وإن هذه الكلمة، كما يقول أندريه مورو في "أوجه السيرة"Aspects of Biography ، مصدر ازعاج لعدد كبير من أذكياء المعنيين، فالبعض لا يريد الإقرار بوجود سيرة قديمة وسيرة حديثة ..
إذن، لنقل ان هناك نمطين من كتابة السيرة، الأول هو التقليدي الذي رسخه الفكتوريون، ونمط أخر يذكر اسم ستراتشي Stratchy باعتزاز حين يذكرونه. "فلو قرأنا صفحتين واحدة من كتاب ترميليان، أو لوكهارت، وأخرى من كتاب لستراتشي، نجد أن كتاب الأول، مهما اكتمل بناؤه، هو وثيقة بينما كتاب ستراتشي هو عمل فني متكامل .. أول تطور حصل، أن كاتب السيرة لم يعد حكماً هو مستكشف وثائق وفاتح طريق للرؤية، يقول أندريه موروا : "إن كاتب السيرة الحديث لن يسمح لنفسه، إن كان صادقاً، ليقول إن هذا شخص عظيم وسياسي قدير بنيت حول اسمه أسطورة، في هذه الأسطورة، وعليها وحدها، سأصب جهدي" بل سيقول "هذا إنسان ولدي عدد معين من الوثائق عنه، وقدر معين من الأدلة عليه سوف أحاول أن ارسم صورة صادقة، ماذا ستكون هذه الصورة؟ لست أدري، لا أريد أن أعرف قبل أن أكون قد رسمتها فعلاً. وأنا مستعد للقبول بما سيفصح عنه تأملي المطول في موضوعي ولتصحيحه بما ينسجم مع أية حقائق جديدة اكتشفها" وأمامنا في هذا الموضوع شاهدان، هما صورتان عن "بايرون"، واحدة رسمها "مور" والثانية تلك التي رسمها "هارولد نيكلسن" في "الرحلة الأخيرة" لن يختلف مراقبان محايدان في أن نيكلسن أكثر احتراماً للحقيقة من مور".
ومن المبادئ المستحدثة في كتابة السيرة، أنها الآن لا تشترط رضى المكتوب عنه وقد لا تستأذنه أيضاً وإذا كان المكتوب عنه يسهم في كتابتها أحياناً وفي توجيهها، ففي أحوال كثيرة يكون كاتب السيرة رجلاً باحثاً في حقل تخصصه وهو حريص على نتائجه فالسيرة حقل تخصص ويتطلب مهارات وقدراً من المغامرة، أسفاراً، ومعايشة، وتغيير أحكام أو مسلمات.
وهذا ما قال به سومرست موم Somerset Maughm الكاتب المعروف حين كتب له أحدهم لأن بكتب سيرته، فكان تعقيبه : ما دمتُ لا أسهم فيها ولا أعطي وثيقة أو رأياً، وهو سيعتمد أناساً وأصدقاء عرفوني لديهم قصاصات أو أفكار عني، فلماذا اعترض؟" ومعلوم أن سومرست موم قد كتب في وصيته طالباً عدم نشر رسائله واتلافها، موصياً مؤتمنيه منع من لديه رسالة لهم من نشرها، لكن النتيجة أن الأستاذ تد مورجان Ted Morgan كتب واحدة من أعظم السير، عن سومرست موم وبأكثر من سبعمائة صفحة!
كما أن السيرة التي كتبها مارتن كريكور دلن Martin Qregar Dellin عن فاكنز والتي نشرت ترجمتها الانكليزية في 1983، كتبها مؤلفها بعد مائة سنة من وفاة الفنان، وكانت هذه كنزاً تاريخياً وثقافياً وذات كشوفات اجتماعية لزمن وناس، كما اتسمت بمنحى شبه نقدي لتقويم النزوع الثوري في إبداعه، فهي "ليست سيرة .. نزهة، بل هي كشف شخصية وعصر."!