في تماهٍ كليّ وبأداء اسطوري، قلما تشهده السينما لم يترك أنطوني كوين شيئاً لنا مما نظنه في شخصية زوربا، نيكوس كازنتزاكي، بل تجاوز ذلك الى الحد الذي صرنا لم نعد نميّز بين شخصية وسلوك كازنتزاكي التي عرفناها عن قرب، في كتاب مذكراته(الطريق الى غريكو) -في الجزء الاول منه- وبين حياة وشخصية انطوني كوين الاسطورية، التي عشناها معه من خلال أعماله السينمائية العظيمة. وفي تقريب جدا، نتحدث عن ما ترسخ في أذهاننا خلال ادائه لشخصية عمر المختار، هكذا، صرنا ازاء حقائق ثلاث، الكاتب والشخصية الروائية والممثل.
ومنذ أن أطلعنا المخرج اليوناني مايكل كوكايانوس على زوربا اليوناني، في الفيلم الذي انتج سنة 1946، منذ ان خلب قلوبنا الممثل انطوني كوين في بناء الشخصية الاسطورية، منذ أن خفت أقدامنا راقصين، مع زوربا، فرحين وحزانى مع موسيقى ثيودوراكيس، منذ اليوم ذاك، ونحن ما زلنا نرقص ونتمايل، ونمور غبطة وأسى، كلما وجدنا فرصة قائمة للاحتفال بالحياة، وهكذا تسربت الينا روح الشاب، الذي قرأ الكثير من الكتب وأصبح لديه كمٌّ رهيب من المعرفة، التي ظنها كافية لمواجهة الحياة، لكن، قبل أن يتعرف على البطل كوين(زوربا) المغامر والجريء، المشبع بخبرات الحياة. وقتذاك، كنا مثل الشاب الذي لم ينتفع من وجود زوربا في المشروع التجاري المشترك الذي افتتحاه معا، لكنه انتفع من خبرته في الحياة.
اليوم، حين نحدق في صورالثلاثة(كازنتزاكي الكاتب، انطوني كوين الممثل وزوربا المتخيل) سيكون (كوين)قد اختزل الصور الثلاث كلها، حتى رحنا نتوهم الاثنين بأنهما لم يكونا أكثر من ظلال له. سيكون أيُّ حديث نفرده عن عظمة تكوين أي شخصية من الشخصيات الثلاث انتقاصاً من الشخصيتين الاخريين. هناك تأسيس لهارموني لن يتكرر.
في مقطع فيلمي يأخذ انطوني كوين(تجاوزالسبعين)يد الموسيقار مايكل كوكايانوس، واضع موسيقى الرقصة العظيمة، وبخطى وئيدة، متباطئة، ثقيلة يبدأ بمراقصته وسط حشد غصت القاعة بهم، يرفع قدمه ويهبط بها على الأرض، يضع يده على كتفه وتتدلى خصل من شعره على جبينه، كان قميصه وشيّال بنطاله جثته الضخمة قد عادت بنا الى الشاشة البيضاء، الى السينما حيث كانت تدوي الأكف وتتقاذف الاقدام معه. كلنا صار زوربا، كلنا تمنى أن يكون كازنتزاكي، كلنا توحدت فيه روح العظيم انطوني كوين .
لم تكن رقصة زوربا لقطة عابرة في فيلم، ولم يكن زوربا شخصية روائية أحببناها حسب، مثلما لم يكن كازنتزاكي كاتبا نقرأ له ونبهر بكتبه، لا أبداً. كانت الرقصة تلك هي رقصة الحياة، حياتنا، بكل معانيها في العظمة والاخفاق، في الربح والخسارات، زوربا أعادت كل منا، نحن بني البشر، الى تأريخنا واسطورتنا وتكويننا الأول، إذ لم يكن زوربا يختلف عن انكيدو مثلما لم يكن يختلف عن جلجامش.
في "الطريق الى غريكو" سنتذكر كيف كان كازنتزاكي وقد هدته الشيخوخة يستجدي الناس ساعات واياماً وسنوات، الناس الذين ليسوا بحاجة الى البقاء طويلاً، الذين لا تضيف اعمارهم الى روح الانسانية شيئاً، وكيف كان يصيح بهم: لدي الكثير الذي أريد أن أكتبه، أعيروني شيئاً من أعماركم: كان يصيح:"..الأيام ملأى والليالي بلا نوم، اشعر بهيجان عصبي، ولا أحد بجانبي كي يرعاني ولا أترك أية راحة لروحي .."." اليوم في الاسكوريال وكل يوم في مدريد وبعد غد في طليطلة، أنا منهك وسعيد" .
كل يوم في مدريد وبعد غدٍ فـي طليطلة
[post-views]
نشر في: 15 أغسطس, 2017: 09:01 م