رغم أننا فقدنا قدرة الرؤية العرفانية للعالم في زمننا هذا وحبسنا حواسنا بما هو مبرهن عليه باللمس والرؤية لكننا مانزال نؤمن بقوى الفن الخارقة ونجد فيه امتداداً لرؤى أسلافنا فنلوذ بالرقص والموسيقى والغناء لنهدئ مخاوفنا وننتشل أنفسنا من بؤسنا الإنساني.يفتتح (ريجيس دوبريه) تصديره لكتابه (حياة الصورة وموتها) بحكاية عن أحد أباطرة الصين الذي طلب من كبير الرسامين في البلاط الإمبراطوري أن يقوم بمحو الشلال الذي رسمه في لوحة جدارية لأن خريرالماء كان يسبب له الأرق ويمنعه من النوم ، ويعلق دوبريه بما معناه نحن ابناء عصر الصورة الذين نؤمن بصمت وسكون اللوحة سنقع حتماً تحت سحر تلك الحكاية المقلقة، فنحن أبناء العصر المادي الذي يتغاضى عن الطاقات الخبيئة في مخيلتنا واذهاننا لكنه لم ينجح تماماً في إزاحة الاعتقاد بالقدرة العجائبية للصورة، تلك الصورة المقبلة من حضارة الشرق البعيد وهي صورة تختلف في جوهرها عن حضارة الغرب التي تؤمن بما هو نقيض لحكاية الامبراطور الصيني، فمازال الغربيون يعتقدون بمقولة المعماري الشهير مهندس عصر النهضة (ليون باتيستا البرتي) الذي نصح مرضى الحمى أن يتأملوا رسوم الينابيع والانهار والشلالات، وكان الناس يؤمنون بفضل المياه رؤية وسباحة وسماع خريرها لتهدئة النفوس والقلوب القلقة ومعالجة المرض والأرق وطرد الهواجس.منذ أن تلمس الانسان مفردات ثقافته البدائية واكتشف قدراته في ممارسة الرسم، صار الفن وسيلة من وسائل التعبد واستدعاء القوى الشافية ممثلة بالآلهة، مثلما كان طريقة للتعبير عن الرغبات في هيئة إلهات الحب والجنس: عشتار وإينانا وافروديت، فاستخدم الانسان الفن لتمثّيل اللامرئي وتجسيد أحلامه واعتقد أن الفن ينطوي على جانب سحري طالما آمن به الأسلاف سكان الكهوف قبل أن يغادروا الى متاهة التحضر.امتلك الفن قوة التأثير على البشر طوال الأزمنة فكانوا يلوذون به ليؤنسهم وينسيهم لبرهة مخاوفهم من القوى المهلكة حين عمدوا إلى رسم الضواري والثيران الوحشية على جدران الكهوف ليسيطروا عليها ويحتجزوا قواها الضارية في الصورة المصمتة، وبرسمهم لها اعتقدوا انهم سيطروا عليها لاستدراج القوى السحرية الكامنة فيها وتوظيفها لتخدم حاجاتهم الروحية .في تلك الأزمنة الغابرة غادر الانسان مرحلة جمع القوت والصيد الى حياة الرعي والزراعة وكان حينها يقدم الأضحيات البشرية للالهة وقوى الطبيعة قبل أن يهتدي الى قوى الفن السحرية التي ألهمته ليستبدل الأضاحي البشرية بتماثيل ودمى من الطين والفخار والخزف وصار يقدمها على مذبح المعبد هدية للآلهة وقوى الطبيعة الهائجة ليسكن غضبها.تفكر الانسان في فائض الوقت بالشمس والقمر والنجوم؛ فشرع بعبادة النجوم والكواكب التي بهرته قوتها العظيمة، فصوّر الاله شمش - الشمس مانحاً للعدل والقوة والقوانين وصنع التماثيل لعبادته، والتفت إلى الاله ننار – القمر وتفكّر في تحولاته فنسب اليه قوة الخصب والتجدد هو الذي يكبر ويكتمل ثم يضمحل كل شهر فربط بينه وبين قوى الخصوبة البشرية والولادة والتجدد، وهكذا ابتكر له رمزاً الهياً وبدأ بتقديسه لإيمانه بقدرته على التحكم بحياته وغلاله وطوفانات الأنهار والجفاف والقحط، وساعده الفن في تمثيل تلك القداسات بأشكال مختلفة من الحجارة والمنحوتات التي تغيرت بتغير خصائص عصر الصيد وعصر الرعي وعصر الزراعة، فكان يقدم لها القرابين ويتضرع أمامها مؤمناً بقدرة تلك الدمى والمنحوتات التي ترمز للالهة والكواكب على منحه السعادة والأمان والوفرة والقدرة على شفاء المرضى وإقصاء الشرور.
سلطة الصورة: الإيمان بالفن
[post-views]
نشر في: 19 أغسطس, 2017: 09:01 م