TOP

جريدة المدى > عام > علمية الذاكرة

علمية الذاكرة

نشر في: 20 أغسطس, 2017: 12:01 ص

واحدة من النِعَم الكبرى هي امتلاك الإنسان للذاكرة. فيها امتلك الانسان امتيازه عن الحيوانات. الانسان يَفيد من تجاربه السابقة فيتطور والحيوان يكرر سلوكه. وضئيلة جداً افادته مما مر به، فلا تقدم. نعمة تراكم التجارب واستدعاء الماضي واحداثه افادتنا في امتل

واحدة من النِعَم الكبرى هي امتلاك الإنسان للذاكرة. فيها امتلك الانسان امتيازه عن الحيوانات. الانسان يَفيد من تجاربه السابقة فيتطور والحيوان يكرر سلوكه. وضئيلة جداً افادته مما مر به، فلا تقدم. نعمة تراكم التجارب واستدعاء الماضي واحداثه افادتنا في امتلاك المكتبة القديمة، بخاصة ما ورثناه من ازمنة قلَّ، بل ندر فيها من يقرأون ويكتبون.

ورثنا اخباراً واشعاراً واحاديث وسِيَراً ووقائع، لكن لا ندري ما حقيقة وقائع التاريخ وما مدى سلامة نسبة القصائد وكم اضيف وحُذِف من كلام ووصايا. الاعتماد على السماع والرواية، مهما بلغ الفعل من الدقة، لا يوازي الوثائق المكتوبة والنصوص بخط صاحبها. وتعابير مثل "روى" ، "اخذ عن"، و "قيل" و "مما ذُكر" هي تعابير تسبب قلقَ قناعاتٍ وتسمح بحرف مغزى الرواية وحتى بابدالها بما ينفع أو بما يضر.
نحن نعلم أن للرواة تصانيف. بعض يأخذ بنفسه وبعض يأخذ عن آخر أو عن آخرين وفئة يختص واحدهم بشاعر ورواة يرون لشعراء مختلفين. والراوي ليس سليم الذاكرة دائماً أو منضبطها، أو الحريص دائماً. فقد ينسى وقد يغير محتفظاً بالوزن والروي. اما من يروون لمختلفين، فكم اختلطت قصيدة بقصيدة وابيات لهذا حلت في قصيدة لذاك اذا اتفقت في البحور والقوافي واذا تشابهت الموضوعات. بل قد تذهب قصيدة بكاملها لغير صاحبها.
أما ما جُمِع وكُتبَ من بعد فقد تداوله قومٌ من كتاب الى كتاب ولبعضها اكثر من مخطوطة واحدة. وحين ننتقل الى المعلومة، حدثاً أو فكراً أو تفسيراً أو حديثاً، فلابد من أن نعلم بأن "العالِم" يتلقى علمه من مجالسة "العلماء" يقرأون عليه وهو يستمع.
إن مرجعيات تعتمد هذا الاسلوب في التلقي لا يمكن أبداً أن تُعتمَد مرجعاً ولا يمكن دائماً الوثوق بها.
قال ثعلب: "شاهدتُ ابن الاعرابي وكان يحضر مجلسه زهاء مائة انسان، كلٌ يسأله أو يقرأ عليه ويجيب هو من غير كتاب .." لا أظنه علماً صحيحاً راسخاً ذلك الذي نتناقله من مرجعيات مثل هذه.
وحين نأتي الى الدراسات الدينية فنحن هنا نأتي لا الى حيثيات الدرس ومادته ولكننا يجب أن نأتي ايضاً الى السلطة المهيمنة ومن تسخرّهم، او من يخشونها، هذا من جانب. ومن جانب آخر من يكرهونها. وكلٌ من هؤلاء يريد النص الديني، تفسيراً أو حديثاً أو تصريحاً أو بْوحاً خاصاً له، يسحبه الى ما يوافقه.
العلم يوجب أن نُبقي هامشاً للشك بهذه وفرصةً لتقليب الأمور مقارنةً واستقراءً. بعد هذا نأتي الى الذاكرة مفترضين حسن النية وسلامة القصد وروح العلم. وُظِّفت الذاكرة لتلقي العلم ولنقله ايضا. ولا اظن، عقلياً، بوجود نمط من البشر، نَقَلة علوم أو رواة، يمتازون بقدرات استيعاب خارقة ولا يسهو واحدهم ولا يخطئ ولا يغير كلمة بكلمة . ومثلما كان في الشعر ما ينسب للأقدمين وهو للمولدين، ففي الدرس الديني الكثير من المكتوب اليوم مما يعزى للقرن الاول الهجري وهو، لغةً وأسلوباً، واضحٌ عليه الانتماء الى القرن الرابع الهجري .. ومهما صحّت النسبة والاحالة التاريخية، فإن احتمال، بل حقيقة تغييرٍ ما، قليلاً أو كثيراً كان، قد حدث إن لم يكن مقصوداً لسبب سياسي أو مذهبي أو اجتهاد فردي وانحياز. فهي الذاكرة الطبيعية ومدى قدرتها.. لو أن القول كُتِبَ بخط صاحبه ووثِّق في زمنه ، لما لجأنا الى هذا الكلام وما استكثرنا ولا قللنا منه. لكنه مروي، وراويه ، كل عهد في حال. واذا كانوا رواة، فالرواة مختلفو الأعمار مختلفو كفاءةِ الذاكرات.
وما دمنا في الحقل أو الدرس الديني، أود القول إن ليس ما وردنا من بدء الاسلام ومما ورد من اصحاب المذاهب هو مكتوب بخط يدي قائله وموثق في زمنه. فما نقرأه وما "نرويه" وما نختصم بسببه، جاء روايةً وأخذ هذا عن ذاك ثم جمعت هذه الاقوال وتبناها مؤلفون أو مُعدون ليس كلٌ منهم ثقة وبعد كل هذا الزمان والتحولات. وهنا واضح أن من أعد وجمع إنما أعد وجمع ما قال به الرواة وكما قلنا بعض أُخذَ سماعاً وبعضه أدّعاء سماع، وبعض عن فلان عن فلان وتكثر "العنات" حتى يأخذنا الشك. اما صيغة أُخذ "عنه" فهي بصيغة المبني للمجهول وهذا يكفي!
نذكر هنا قولاً لذي الرمة، يشير الى ما نحن بصدده. وما في نقل الشعر شبيه بما في نقل المتن الديني. قال ذو الرمة لقيس بن عمر: "اكتب شعري، فالكتابُ أحبُّ  أليَّ من الحفظ لأن الاعرابي ينسى الكلمة وقد سهرتُ في طلبها ليلتي، فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها للناس.." (عن عادل سليمان جلال – المجلة أيار 1966).
إذاً ثمة ادراك مبكر لخطورة أو لخطأ الاعتماد على السماع. هذا وهو شعر، وهي قصيدة. لكننا الآن في خصومات تصل حد الكراهة بل حد القتال مختلفين على وقائع واخبار واحاديث ووصايا، جاءتنا تتنقل من راوٍ الى راوٍ ولا من يضمن عدم الميل أو عدم الانحياز او عدم الافتراء. ايضاً نحن نعلم أن من جمعوا المرويات أو المسموعات غالباً ما يكونون في ظلال نعمة الخليفة أو السلطان أو الزعيم وهما حاولوا الحفاظ على الحقيقة، فإن بعضها لا يُروى أمام السيف. كما أن المعتقدات، بترسخها ومرور القرون عليها، تصبح مولّدات لما هو غير معقول، خرافات أو معجزات. وانها صانعة "اسلحة" لزعماءهؤلاء وقادتهم ضد زعماء اولئك وقادتهم. للأسف تجدنا أحياناً نرتضي هذا المرجع أو ذاك والتلفيق والصنعة فيما يذكره واضحان. التحامل موجود كما السهو البريء موجود. وما دمنا امة تعتمد مقولات سمعت قبل قرون ومرويات مشكوك بسلامة نقلها وسلامة الغرض من النقل، فلا غرابة ولا عجب من أن تتأجج خلافات وراءها مذهبيات أو زعامات أو انحيازات.
ما هو موقفنا الثقافي والايماني وقد علمنا بأن أياً من اصحاب المذاهب الاسلامية لم يترك لنا كتاباً مكتوباً بيده وبعضهم من غير راوٍ ثقةً يخشى الله؟ وأن مجموعة الكتب التي تلت والمعتمدة مراجع، فيها الكثير من الدخيل والمصنوع ولها اكثر من رواية واحدة؟. كما تجد أحياناً فحوى مقولة في اكثر من مكان وتنسب لأكثر من شخص وبصور مختلفة تصل حد التناقض أو النفي؟ فهل نرهن ثقافتنا ومصائرنا في غير المؤكَّد؟ ، اعني في المختلف المشكوك فيه، في المروي احياناً بلا سند مؤتمن أو معقول؟
ما يفرح حقاً، اننا نشهد منذ سنوات أبصاراً جريئةً تتفحص وبشجاعة تعيد تمحيص ما كان حصيناً لا يُقربُ إليه. وأن كثيراً مما يروى اخرجوا للناس لا حقيقته ولا صوابه. بل بدأت السخرية من بعضها وهو "جليل". ويوماً بعد يوم سنرى مزيداً من القراءات العلمية والذكية تؤكد لنا اننا نعتمد مقولات ومرويات مرتبكة، غير محايدة واحياناً لا حقيقة وراءها ولا تخضع لأيّ منطق علمي.
صعب بعد اليوم الاطمئنان لعلمية الذاكرة. قراءات ذكية مطلوبة. قلنا فيما ورثناه ما هو مهم ومقدس نخشى عليه من أن يضيع أو يُغطّى عليه...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

نص ونقد.. العبور والانغلاق: قراءة في قصيدة للشاعر زعيم نصّار

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

مقالات ذات صلة

يحيى البطاط: الشعر والرسم طريقان لمعرفة العالم، أو لتسكين الذات
عام

يحيى البطاط: الشعر والرسم طريقان لمعرفة العالم، أو لتسكين الذات

حاوره علاء المفرجي الشاعر والرسام العراقي، يحيى البطاط خريج جامعة البصرة تخصص رياضيات، حائز على جائزة الصحافة العربية عام 2010، يقيم منذ العام 1995 في الإمارات العربية المتحدة، وأحد مؤسسي مجلة دبي الثقافية، ومدير...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram