TOP

جريدة المدى > عام > فصل من كتاب..ستيفان تسفايج يأسر قارئه إلى نزعته الإنسانية الجارفة

فصل من كتاب..ستيفان تسفايج يأسر قارئه إلى نزعته الإنسانية الجارفة

نشر في: 23 أغسطس, 2017: 12:01 ص

لا أحسب أن ناشئاً في الأدب يصادق ستيفان تسفايج إلَّا أحسّ لتوّه أنه وقع أسيراً في قبضته، لا مفر له من أن يتأثر به، سعيه بعد ذلك أن يتحرر منه ليهتدي إلى سليقته، لا بد له أن يقرأ كل حرف كتبه ثم يقول هل من مزيد، إنني أتكلم عن تجربة، هكذا كان حالي، لا أخ

لا أحسب أن ناشئاً في الأدب يصادق ستيفان تسفايج إلَّا أحسّ لتوّه أنه وقع أسيراً في قبضته، لا مفر له من أن يتأثر به، سعيه بعد ذلك أن يتحرر منه ليهتدي إلى سليقته، لا بد له أن يقرأ كل حرف كتبه ثم يقول هل من مزيد، إنني أتكلم عن تجربة، هكذا كان حالي، لا أخجل من الاعتراف بأنني كتبت قصة (البوسطجي) في شبابي وقت أن وقعت أسيراً في قبضة تسفايج حين صادفته في طريقي، أسرني كما يأسر كل قارئ ولا ريب بصفة غالبة على جميع مؤلفاته.

سواء في القصة أو السيرة أو التاريخ أو الرحلات، هي الاتقاد والجيشان، اتقاد يحيل الحديد الغليظ إلى كتلة شفّافة من لهب، وجيشان كالنافورة المتوثبة التي لا ينضب فيضها ولا يضعف اندفاعها، متلاحقةً، بعضها آخذ من بعض، وهي في كل الأوقات من قوام واحد، مذهلة قدرته على الجمع بين الاستمرار والتجدد، بأي خطو سار ستشعر أنك تلهث جرياً في تتبعه، تتمنى أن ينتهي مشوار تتمنى ألَّا ينتهي، فإذا فرغت منه أحسست بشبع تحسب أنك لن تعاني بعده من جوع مهما صمت، أحسبت أيضاً - صدقني - بشيء من التنميل يمسّ أعصابك بألم لذيذ، ألم تكن تجري طول المشوار؟ تحس بشيء من الخجل والغيظ لأنك تعريت، كأن يداً قد نفضت عنك ثيابك واندس منها ألف إصبع إلى دخيلتك تفتش عن أسرارها وتكشفها، بل تعرفك بها، فقد كنت تجهلها لأنها مطوية في ظلام جوفك، ولكن التفتيش تم على وهج كتلة اللهب الشفافة، أصبحت العواطف في قلبك قادرة على بلوغ نهايتها القصوى، الحب إلى ذروة الوله والهيام، والنفور إلى غاية من الكراهية والبغضاء، تتفجر هذه العواطف لأن مشرط تسفايج قد مزق ركودها في قلبك، يمنحك متعة الشبع عند النهاية، ولكنه يحرمك أيضاً من متعة تأمل كل فقرة على حدتها لأنك تجري وتلهث، كأن كل فقرة نفخة متجددة في الأتون لكي يزداد التهاباً، وهذه هي أهم سمات العمل الفني، الفقرات لا بد أن يكون لها نبوغها وعبقريتها استقلالاً، ولكنها تذوب في الكل حتى تكاد لا تنتبه لها، ومع ذلك إذا حذفت واحدة منها انهار البناء أجمعه.
وسط هذا الاتقاد تنصهر الألفاظ وتتحول اللغة من العموم إلى الخصوص، وتخاطبك بلسانين:
الإفصاح والإيحاء، المباشرة والكناية، الحق والاستعارة، بل يتحقق لها المستحيل، الجمع بين النقيضين، طابع الألف والحرية، كأن كل الناس هكذا يتكلمون، وطابع الرق  والاستعباد لأنك تعدلها أو قل تشوهها لكي تفي بغرض نفعي مستبد في سياق لا يطابق الواقع ويزعم أنه في الواقع، حوار أبطال القصة صادق ولكن لا أحد في الدنيا يتكلم مثلهم في حال كحالهم، لا بد من الاختزال الجبري والبتر بلا حسرة لملء قوالب محددة يستقل بها العمل الفني، وشرط ألَّا يبين طابع من طابع، الفن لغة تنسيك صراحتها أنها شفرة سحرية ترمز - كما في الأسطورة - إلى سر الباطن من تحت الظاهر وتوحد الكائنات تحت ستار من الشتات هكذا لغة الفن، لغة تسفايج، لا يسمح اتقادها لبصمات البلاغة وقواعد النحو إن تجلجل فتصم الأذن، أو أن ترشق العين فتفقؤها، الالتحام يتحقق من وراء ظهر أدوات الوصل والعطف كأنما بالرغم منها لا بفضلها، والسلام متبادل بين الأسماء والأفعال والحروف.
وليس هذا فحسب، إن أسرّ ستفيان تسفايج لقارئه راجع أيضاً إلى نزعته الانسانية الجارفة، لا ينقص من قدر الإنسان عنده أنه ضعيف، هو يعريه ولكن لا يسخر منه، لا أعرف مثله كاتباً عظيماً خبيراً بأسرار النفوس وأقنعة الخداع، برأ قلمه تمام البرء من السخرية، ما أقوى إغراء السخرية لكاتب يتأمل البشر من علُ لا للترفع عنهم بل لاستيعابهم، ومن عجب أن السخرية رغم زعمها أنها وليدة حس مرهف غضّ الذكاء تنم بالعكس عن الجفاف أو تهدد به، سلم منها تسفايج حتى في خريف عمره، مطلبه هو فهم الإنسان لا الحكم عليه، إنه يتركه كما تناوله، كما التقى به ويودعه! ريشة في مهب الريح تصارع وحدها مصيرها، هذا الكاتب في حديقة الأدب الألماني شجرة حور متوثبة، نافورة من خشب، سامقة، جذع رشيق يدق كلما علت، فلا تنبت الأغصان إلَّا قرب تاجها الشامخ وهي قليلة، كأنما جعلت ليفرد عليها شراع مشتاق إلى بحار مجهولة، هيهات للآثم الضال أن يجد تحتها ظلاً أو نفحة من أمل، إنها ترمقه بعين فاحصة ثم تتركه في الهجير لقدره، هيا به إلى الظل الوارف تحت شجرة سنديان، غليظة الجذع، دحداحة، رحابة الصدر عندها أحب من ارتفاع الهامة، فاحشة الثراء بأغصان ملتفة، دانية، دائرة، كأنها قبة محراب، توحي بالسكينة والحكمة، هي شجرة جوته، التقى بفاوست وهو هاوٍ إلى الجحيم ولكنه لم يتركه إلَّا بعد أن فتح له باب الأمل في رحمة الله وغفرانه إذا صدق ندمه وصحت توبته، في رسالتها وهي برد وسلام ونفخ للروح... بعد سنين عديدة سيبقى جوته فذاً كما كان، على حين قد يظهر لتسفايج أنداد كثيرون.
هرب ستفيان تسفايج في قصصه من رافعي لواء  الطقوس والفلسفة والحكمة والتاريخ ليلوذ بحضن الفن وحده، هو خلاصة الجميع ولكن لا يستبعده أحد، هو الكلمة الأخيرة التي كانت على ألسنتهم كلهم ولأمر ما لم ينطقوا بها، لا عجب حين نطق بها الفن إن كان لها مثار حيرة  وخلاف، غير مقنعة هي أيضاً، أعرفت الآن لمن الكلمة الأخيرة؟ لمن كانت له الكلمة الأولى...
الآن يؤنبني ضميري، لأنني تحدثت عن الشبع الذي يحس به قارئ ستفيان تسفايج وأنا أكتم شكاً في صدري لا بد لي من أن أصارحك به. يثير هذا الشك سؤالي:
هل في الشبع كما في الجوع ما هو جاذب؟ وإلَّا فلماذا فرغت من قراءة كتاب لهذا الساحر الآسر؟ أتعرف الشهاب الذي يلمع فجأة بالليل، لا ترى حياته إلِّا لحظة يهوي قفزاً كالمشنوق إلى حتفه متقداً متوهجاً كأنه شمس تجمعت في شرارة واحدة فاجرة، تحسب أن أذنك تسمع أزيزها، جميع النجوم البراقة بدت بغتة معتمة، تخطف أنفاسك فتكاد تشهق من فرط انبهارك به ولكن كل عمره لا يزيد عن طرفة جفن، فإذا ارتد البصر وجدت هذا الطارئ المقتحم قد انكشط عن صفحة السماء. لأثر له ولو شبهة من دخان شاحب، عادت النجوم العتيقة إلى بريقها الثابت المتصل كأنما ليس الأهم عنده هو طول العمر والأثر بل البرهنة بخيلاء على براعته الخارقة في جذب الأنظار والإدهاش ولو للحظة عابرة يدفع عمره كله ثمناً لها، والغلو في استعراض البراعة افتناناً بالنفس يلقى جزاء لا مفر منه: أن يكون الأثر كالشبع الكاذب، أخشى أن يكون هذا هو حال الساحر الآسر ستفيان تسفايج. ما أسرع استيلاءه عليك واستبداده بك، ما أسرع انعتاقك منه لحظة أن يتوارى عنك، لا أذكر أن نفسي همت بي أن أعيد قراءة كتاب له كنت انبهرت له أشد الانبهار إبان خضوعي له، إنما تعاد قراءة كاتب يكون كالنجوم المتأنية الخاشع همسها إليك بمعنى الجمال والانسلال في الملكوت، كان مددها من ثدي أم ترضع طفلها، لا تقصد إشباع جوعه، بل تمنحه غذاء، يسري في كيانه هو يبنيه صحيحاً على مهل.
أتكون خلة اليهود إبان الشتات هذه الشهوة العارمة لاستعراض براعة على الإدهاش تبزّ طاقة بقية الناس، تلمساً لكبرياء، يدحضون بها إذلالهم الذي جروه هم على أنفسهم. شطحات كثيرة في الفنون التشكيلية والأدب المسرحي مرجعها إليهم بدافع من هذه الشهوة التي انقلبت بعد الصهيونية إلى داء يشبه جنون العظمة، بل تجد هذه الشهوة على تعليقات فرويد، وقد فسر بها كثرتهم بين العازفين الفيرتيوز وقلتهم بين الملحنين المبدعين العظام، فالفيرتيوز أبدع تمثال يجسد إعلان البراعة الفذة التي تتعمد جذب انبهارك. فإذا كان ستفيان تسفايج بين العازفين هو الفيرتيوز فهل لأنه بين مصابيح السماء هو الشهاب.
يضاف إلى رصيد تسفايج قدرته الواضحة على المثابرة والتتبع، إنها مظهر هيامه بالكشف وظمأه للمعرفة. ما إن يبدو له طرف خيط حتى يطبق عليه بيد صائد فاتك وحنون معاً على الفريسة المسكينة، ويظل يجذبه بإصرار ورفق، محاذراً أن ينفلت أو ينقطع أو يلتوي، إلى أن يصل مهما طال المدى إلى خبيئة البكرة التي أطلقته، تراه في أوج قدرته لا عند العقد التي تصادفه وتوهم ضخامتها أنها عسيرة مع أنها سهلة، منتفشة لأنها هاتفة، بل عند العقد الصغيرة كرأس الدبوس، لا يبين منها ظهر من بطن، مبتور منها اللسان والأذرع والسيقان إن لم تسعفه أنامله في فكها لم يتركها بل استعان عليها بأظافره، بأسنانه، ومن هنا نحس أن أسلوبه لا يلتهم السرد فحسب بل ينهشه نهش الغول، هكذا يصل إلى قرار النفوس فيكتشف سرائرها، وكشف سرائر النفوس هو أول شيء يشوقه، لا همَّ له غيره، إنه لا يعيش إلَّا له، إن انقطع عنه باخ ورذل، بهذه المتابعة الظمأى للمعرفة قام ستفيان تسفايج (لاعب الشطرنج) بتشريحين، في الأول كسر جمجمة هذا الفتى الجلف الغبي الخام المعتم الذي لا عمل لجسده إلَّا أن يحجب الضوء دون أن ينبعث منه شعاع واحد يصافح به الكون والناس فيدل على يقظة إنسانيته، كيف ولماذا ومن أين تأتي له أن تتلألأ في مخه الصدئ، موهبة واحدة فحسب هي موهبة لعب الشطرنج، فيصبح على رقعته بطل العالم المنتصر في كل موقعه، إذن ما هو سر مخ الإنسان وكيف يعمل وهل تترابط أو لا تترابط قنواته، ما هو سر الذكاء، أفمن الجائز أن ينحصر ويتخصص في بؤرة صغيرة في هذا المخ ومن حولها خلاء تام، عن طريق جمجمة لاعب الشطرنج؟يريد تسفايج أن يطل ونحن معه على مخ الإنسان عامة، إن سره يحيره ويشوقه ويتحداه...
التشريح الثاني لنفس لا لمخ، نفس رجل متمدن مثقف متصل بالعالم أوثق اتصال، فعّال ومنفعل، مؤثر ومتأثر، يريد تسفايج أن يعرف التحولات البشعة التي تحدث لهذه النفس حين يحكم على صاحبها بالحبس الانفرادي في زنزانة ضيقة، ليس بها إلَّا طاقة صغيرة عالية ينفذ منها نور أقرع بلا مرئيات فهو والظلام سواء، حتى الأصوات محجوبة عنها، ليست فيها صحيفة أو كتاب أو ورقة أو قلم، ولا زائر، حتى الحارس يظهر دون أن يتكلم، كل يوم كالأمس والغد، كل لحظة كالسابقة واللاحقة، أصبح والأشياء المحيطة به، الفراش والمنضدة والصحن- من شدة ألفه بها خليطاً واحداً لا تدري أهي من الأحياء أم هو من الجماد، سترى دبيب التحطم والانهيار - قل الجنون - إلى هذه النفس خطوة خطوة، تحولات مرعبة، ليست نفسية فحسب بل بيولوجية أيضاً، فأسر مساحة الزنزانة لقدمين - طولاً وعرضاً - سيظل عالقاً بهما حتى بعد إطلاق سراحه، قد أقنعنا تسفايج أن أقسى تعذيب للإنسان هو الحبس الانفرادي، كل وسائل محاكم التفتيش بالنسبة إليه رحمة.
جمع تسفايج في أقصوصته بين لاعب الشطرنج ونزيل الزنزانة يبنيان هيكلها بالتقاء المنفصلين ومشاركة المنفردين كأنهما إبرتا تريكو تصنعان معاً وكل منهما مستقلة نسيجاً يتوالى نموه غرزة غرزة حتى يكتمل، يصعب أن تفرق في عمل الإبرتين بين التوازي والتداخل وبينهما (ولس) لا ينقطع، وهذا مثل فذ لبراعة تسفايج في صناعة القصة وحبكها وتفصيلها وتركيبها وسوقها ونموها المطرد إلى غايتها المقصودة على أتم وجه بحيث تستحيل الإضافة أو الحذف.
وأود أن أخبرك هنا للدلالة على قيمة هذه الأقصوصة وارتفاعها إلى مرتبة النماذج أو الكلاسيكيات في الفن القصصي أن صحيفة ( الموند) الفرنسية - جليلة القدر- خرجت عن تقاليدها الراسخة في إبان نشر قصة مسلسلة على صفحاتها اليومية وقدمت لقرائها (لاعب الشطرنج) مسلسلة على صفحاتها اليومية وقدمت لقرائها (لاعب الشطرنج) مسلسلة في أواخر صيف سنة 1972، حقاً إنها ركبت موجة الاهتمام بمباراة الشطرنج الدولية بين بوبي فيشر الأميركي وموريس سناسكي الروسي في مدينة لايكافيك، ولكن لولا قيمة هذه الأقصوصة ورغبة الموند أن ترفع بفضلها اهتمام قرائها بهذه المباراة من مستوى نادي هواة الشطرنج إلى مستوى حضاري وثقافي رفيع، لما ظهرت على صفحاتها مسلسلة...
لا أود أن أطيل عليك بسرد سيرة تسفايج وإحصاء أعماله العديدة، ما أسهل أن تجد هذا كله في أحد المراجع لكن لا بد لي هنا أن أقول لك بأن تسفايج يهودي، لم تُخف عنا ديانته على خلاف أندريه موروا الذي لم نعرف أنه أندريه هيرزوج إلَّا بعد أن كتب سيرته الذاتية، وتسفايج رغم ديانته - ربما بسبب ديانته - يزهو بأنه منتمٍ إلى حضارة غرب أوروبا المسيحية، مؤمن بكل تقاليدها فلما رأى هذه التقاليد تتهاوى تحت ضربات هتلر وموسوليني حكم بأن هذه الحضارة قد أفلست وأن حياته هو قد أفلست أيضاً، كل شيء، إذن زائف، فلم يبق له إلَّا أن يقتل نفسه فكان انتحاره آخر مأساة يؤلفها.
 مقدمة رواية لاعب الشطرنج بقلم الكاتب يحيى حقي

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

نص ونقد.. العبور والانغلاق: قراءة في قصيدة للشاعر زعيم نصّار

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

مقالات ذات صلة

يحيى البطاط: الشعر والرسم طريقان لمعرفة العالم، أو لتسكين الذات
عام

يحيى البطاط: الشعر والرسم طريقان لمعرفة العالم، أو لتسكين الذات

حاوره علاء المفرجي الشاعر والرسام العراقي، يحيى البطاط خريج جامعة البصرة تخصص رياضيات، حائز على جائزة الصحافة العربية عام 2010، يقيم منذ العام 1995 في الإمارات العربية المتحدة، وأحد مؤسسي مجلة دبي الثقافية، ومدير...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram