تتسم تجربة الفنان التشكيلي سعد علي بغزارة الإنتاج، وجودة النوعية، ففي عام 2016، على سبيل المثال لا الحصر، اشترك بثلاثة معارض شخصية، الأول في غاليري Castor بمدينة نيويورك، والثاني في لوز دي لا فيدا كومبيتا بملقا في إسبانيا، والثالث في غاليري المرخيّة
تتسم تجربة الفنان التشكيلي سعد علي بغزارة الإنتاج، وجودة النوعية، ففي عام 2016، على سبيل المثال لا الحصر، اشترك بثلاثة معارض شخصية، الأول في غاليري Castor بمدينة نيويورك، والثاني في لوز دي لا فيدا كومبيتا بملقا في إسبانيا، والثالث في غاليري المرخيّة بالدوحة. أما في عام 2017 فقد أقام حتى الآن معرضين شخصيين، الأول في غاليري Gosto بمدينة فارو البرتغالية، والثاني في مدينة ركينا الإسبانية، وربما يقيم معرضاً ثالثاً خلال الأشهر المتبقية من هذه السنة.
في أثناء رحلتي إلى مدينة فالنسيا الإسبانية دعاني الفنان سعد علي لزيارة مرسمه ببلدة Chiva التي تبعد عن مدينة فالنسيا 55 دقيقة بالقطار بغية التعرّف عن كثب على لوحاته المنجزة التي لم تُعرض حتى الآن. وبما أنه صديق حميم وتربطنا علاقة أسريّة، قديمة فقد اصطحبت عائلتي الصغيرة معي لتستمتع بمنزله المُطل على المدينة ومشهد البحر الأبيض المتوسط الذي يترآى من بعيد. ما إن ولجنا البيت حتى تلاشت الحدود الفاصلة بين المُحترَف وغرف السكن والمعيشة والاستقبال، ففي البيت فنانة أخرى هي النحاتة الهولندية مونيك باستيانس التي ملأت هي الأخرى غرف المنزل بالتكوينات والأعمال النحتية المثيرة التي تستحق أن نفرد لها مقالاً خاصاً لتغطية الأشكال والمضامين الجميلة التي تشتغل عليها هذه الفنانة الدؤوب المنحدرة من أب هولندي، وأم بلجيكية، وقد وجدت ضالتها العاطفية في سعد علي، وتماهت معه في عوالمه الفنية والروحية والذهنية.
المتابعون لتجربة سعد علي يعرفون أنه منهمك منذ أكثر من ثلاثة عقود بمشروعين فنيين وهما "صندوق الدنيا" و "أبواب الفرج والمحبة" لكنه "تحرّر" منهما في المعارض التي أقامها خلال السنوات الخمس الأخيرة وكأن رؤيته الفنية قد اتسعت وصارت بحاجة ماسّة إلى مساحات أكبر من حجم الأبواب والشبابيك القديمة التي يصقلها، ويُشذِّبها، ويعيد إليها الحياة من جديد. لذلك لجأ إلى اللوحات القماشية الكبيرة التي يشتغل عليها بالزيت غالباً متتبعاً فيها أساليب الفنانين الكبار أمثال روفائيل، كارافاجيو، رمبرانت، غوستاف كليمت، فيلاسكيز، أنتونيو تابييس، بيكاسو، وآخرين.
ما تزال فيكَرات سعد علي متمعجة، فالأعناق مشرئبة، والأصابع ليّنة مطواعة كأنها خالية من العِظام، وثمة مسحة سريالية تؤهله لأن يتلاعب بالأعضاء البشرية فبدل اليدين يمكن أن ترى الإنسان بثلاث أيدي، وثلاث أرجل، والحيوان بخمس قوائم كما في معرضه الأخير المُقام بمدينة "ركينا" حيث تحولت المرأة في لوحة "البحث" إلى كائن أسطوري بثلاث أيدي وثلاث أرجل بشرية وجذع حيوان ورأس امرأة، ولعلّه عمل العكس فمنح الكائن الأسطوري بعض المعالم والأعضاء الأنثوية.
ما يلفت الانتباه في هذا المعرض الشخصيات النسائية المفرطة في رومانسيتها مثل لوحة"حبيبتي" التي تبدو فيها المرأة المتيّمة وهي متكئة على كوعها الأيمن بينما تمرّ نظرتها الرقيقة فوق أصابعها الرهيفة المُستدقة. هذه المرأة وسواها من النساء الرومانسيات ناعمات، وشفافات وكأنهن قادمات من عالم الحلم.
تبدو المرأة في معرض "الروح الحلوة" أكثر وفاءً وإخلاصاً من الرجل، ولعلَّ معاناتها أشدّ من معاناة الرجل بكثير وهذا ما تكشف عنه لوحة "مِلْكيتي" وهي تعني أنّ حبيبها هو مِلكها الخاص الذي تحمله معها أنىّ حلّت أو ارتحلت ومع ذلك فهو يبدو قوياً في اللون، ثقيلاً في الوزن، ومتماسكاً في البناء وكأنه هو الأصل وهي الصورة الشبحيّة لأنها باهتة، ومتلاشية، وبلا ملامح لكنها ماضية قُدماً في رحلتها الحياتية المحفوفة بالمخاطر والصعاب.
تحضر الأجواء العائلية في هذا المعرض ويكفي أن نشير إلى لوحة "عائلتي" التي تضم في تكوينها المتوازن الزوج والزوجة والابن الوحيد الذي يتناول التفاحة من والده. كون التفاح يُذكرِّنا بلوحات الحياة الساكنة Still life لكنه في هذا اللوحة يحيلنا إلى جُود الأبوين وسخائهما اللا محدود لأبنائهم.
لا تقتصر الحميمية على أفراد العائلة وإنما تمتد إلى الحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب والظباء والطيور، ففي لوحة أخرى تحمل عنوان "الحب والشغف والعاطفة" الموجهة للحيوانات الأليفة تحديداً التي تستطيع أن تميّز بين لمسة الإنسان الحنون أو المزيفة التي تنطوي على إدعاء ما. أما خلفية المشهد فهي غابة كثيفة كأنها تشير من طرف خفي إلى العلاقة القوية بين الظبية التي تركت حاضنتها الطبيعية وجاءت إلى هذه المرأة الحنون ملبيةً نداء الحنان الذي وجدته عند هذه السيدة المعطاء.
لوحات عديدة لنساء يحملن أنواعاً مختلفة من الفواكه والخُضار الكبيرة الحجم، كالطماطم والفلفل والخيار وقد سمّاها بأسماء مختلفة لعلّها تشير إلى أن هذه الفواكه والخضراوات ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها في واقع حياتنا اليومية لكنها بالمقابل ذريعة لونية تتضاد أو تتناغم مع الفيكَرات النسوية التي تحتضن هذه التكوينات كما تحتضن الأحبة أو الأطفال الصغار أو الأشياء الثمينة النادرة.يمتلك الفنان سعد علي جنّتين، الأولى سماوية يلج إليها بواسطة "أبواب الفرج والمحبة"، والثانية جنّة أرضية يصنعها بنفسه في منزله وغالباً ما تكون حديقته التي يُعنى بها في أوقات الفراغ. ففي حديقته ثمة فسائل نخيل كثيرة نبتت من نوى التمر الذي أُرسِل إليه من الفرات الأوسط، وكذلك أنواع من الصبّار بعضه أوروبي، وبعضه الآخر معروف لدينا في العراق، وأنواع عديدة من الزهور اليانعة التي تفوح بعطرها الباذخ الذي يتسلل عبر النوافذ إلى غرف المنزل الإسباني الطراز لوناً وتصميماً وهندسة داخلية مريحة ومفتوحة الفضاءات. لوحة "حديقتي" الكبيرة الحجم هي نموذج للفردوس الأرضي الذي تصنعه مخيلة سعد علي. وثمة لوحة أخرى اسمها "شغف الصبار" تظهر فيها امرأة مفرطة الجمال تُحاصرها أذرع الصبار الطويلة التي توحي بطبيعة العلاقة السرية الغامضة التي تدفع بأذرع هذه النبتة البرية "المدجّنة" لأن تحتضن هذه السيدة الجميلة المغرية، ولعلها توحي أيضاً بأن مَنْ يريد نيل هذه المرأة الفاتنة فعليه أن يغامر ويتحمل وخزات أشواكها اللاذعة.
تتصف التخطيطات والتكوينات التي أنجزها سعد علي لهذا المعرض بالانسيابية والسلاسة والدقة، فنادراً ما يكرر الخطوط ولا يمرِّر بعضها على البعض الآخر ، وإنما خط واحد يكفي لتحقيق أي عضو من أعضاء الجسد أو أي معلم من معالم الوجه. والتخطيطات المعنونة بـ "الأبيض والأسود" تؤكد صحة ما نذهب إليه في الدقة والعذوبة والشفافية في التخطيطات الأربعة التي تجمع ثلاث منها بين المرأة والحيوان والطير وطبيعة العلاقة الحميمة بينهما، وبين الحيوان المجنّح ونظيره الحيوان الآخر الذي رسمه بتقنية "التصوير الذهني" الذي لا يتطابق بالضرورة مع صورته الواقعية التي نراها بالعين المجردة.
بعد أربعة عقود ونصف العقد من الانغماس في الرسم، والمتابعة الفنية، والخبرات البصرية التي تتراكم يوماً بعد يوم، وصل الفنان سعد علي إلى روح المرأة، ولامسَ جمالها الداخلي، وبدأ يتحسس منجمها الفكري المغلّف بمعطيات إنسانية كثيرة. فلم يعد مهتماً بالشَعر الذي يتوّج رأس المرأة، والملابس الثمينة المغرية التي ترتديها كما في لوحة "النظرة" أو "التحديقة" التي تجسّد العاطفة الإنسانية في ذروة توهجها الذي انعكس على الأنف الدقيق والشفتين الشهيتين وانزاح إلى بقية ملامح الوجه البيضوي الذي ينضح شبقاً ورقّة وأنوثة.
لعلَّ هذه الانعطافة الاستثنائية من "صندوق الدنيا" و "أبواب الفرج والمحبة" تشكِّل تجربة مُغايرة أو مشروعاً جديداً يحلِّق في فضاءاته غير المُكتشَفة التي تنطوي على مفاجآت كثيرة وتضخ دماءً جديدةً في تجربته الفنية التي بلغت أعلى مراحل نضجها وتطورها على صعيد الثيمات والتقنيات والمقاربات والرؤى الفنية التي باتت واضحة المعالم للمتلقي الحصيف الذي يتوفر على خبرة بصرية تؤهله للولوج في العوالم الواقعية والخيالية التي يجترها الفنان الدؤوب سعد علي الذي لا يكفّ عن المغامرة، والتجريب، وحُب الاكتشاف.