TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ولكن أسىً بالغَ العمق يشوبُ ابتهاجي

ولكن أسىً بالغَ العمق يشوبُ ابتهاجي

نشر في: 27 أغسطس, 2017: 09:01 م

إن التجوال في مدينة اسطنبول حفنةُ مباهج، تتدفق عناصرُها من التاريخ، ومن الحداثة، ومن المسعى الذي لا يتوقف إلى المستقبل. تجمع بين حداثة الغرب وسحر الشرق، الأمر الذي يجعلها غايةً في التفرد. إنها نموذجُ المدينة التي لا يتأثر عمرانُها المتواصل بالمعترك السياسي إذا ما حدث؛ فهي تنعمُ بصلابة المدن التي تستقل خطواتُها، من أجل العمران، عن كل أهواء الصراع السياسي. هذا ما اجتهدتُ فيه، وأنا استحضر، رغبةً في المقارنة، العواصمَ العربية التي تنعم بتاريخ عريق: بغداد، القاهرة، دمشق.. هذه المدن العربية معلقةٌ بأذيال التسلط السياسي، والمعترك السياسي اللذين يواصلان فسادهما منذ أكثر من نصف قرن ( وهل أجرؤ أن أقول: منذ 14 قرناً؟)، حتى لتبدو المدينةُ بناسها مرآةً تعكس فساد السلطة؛ تتشربه وتخطو خطاه. ولذلك لم تملك حصانةً في الخطوات، ولا استقلالاً، يجعلانها تواصل النمو، غير عابئة بفساد الساسة. المدينة تَغْنى بسواعد أبنائها، أو تَفْقر بسواعدهم أيضاً. إن بغداد شاهدي على هذا؛ المدينة التي لمْ يُسعفها المجدُ القديم.  
رأيت اسطنبول لأول مرة، بفضلِ دعوةٍ لمهرجانٍ عالمي للشعر، هو الخامس الذي امتد من 3 إلى 6 مايس. إن سحرَ المدينة وضعت المهرجان الشعري تحت ظلها، بالرغم من تزاحم برنامجه، الذي تضمن قرابة 17 نشاطاً شعرياً وموسيقياً. القصائد التي استطعت متابعتها يغلب عليها الحماس السياسي، باستثناء قصائد شعراء من هولندا، النروِج، سلوفينيا، منغوليا، البرتغال، المكسيك، التي انصرفت إلى رؤى تُعنى بالانسان، لا بالتاريخ. وهذا ما أصبو إليه. هناك مشاركات عربية من فلسطين، المغرب، مصر، لبنان، والعراق. ولكن الأنشطة التي فتنتني أكثر من غيرها هي دعوة الشعراء لإقامة جلسات حوار في المدارس المتوسطة والاعدادية. هناك ينفرد الشعراء، عادة ما يحددون بثلاثة، بجمع من الطلبة داخل قاعات تتمتع بأناقة ملفتة للنظر. الطلبة، فتياناً وفتيات، لا يخفون رغبتَهم بطرح الأسئلة، بشأن الشعر، ولا حماسَهم بالحصول على تواقيع الشعراء، حتى وجدتُني، وأنا تحت وابل طلبات التوقيع، أتمتع بمشاعر النجم التي لا عهد لي بها. التفاتة من منظمي البرنامج ذكيةٌ دون شك. كنت أود رؤية منطقة "تقسيم" في قلب اسطنبول، وشارعها الشهير "استقلال جادتي"، المحبب لقلب الشاعر الراحل حسين مردان في الستينيات، ولكنني لم يُسعفني الوقت. كان مردان يزور اسطنبول مرة أو مرتين في العام، ويحب أن يعلن اعترافه في كل مرة: "في استقلال جادتي أجد نفسي". على أني رأيت ما يكفي في زيارة قصيرة كهذه، ببرنامجها المزدحم. رأيت جامعيْ السلطان أحمد، وآيا صوفيا (الذي كان كنيسة بيزنطية، ثم أصبح جامعاً بعد فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح 1453، ثم تحول إلى متحف على يد أتاتورك). رأيت البازار الكبير، الذي لا يُقرن بخان الخليلي، أو سوق الحميدية، أو الشورجة أيام مجدهم. مسقوف، يتوزع شارعه الرئيسي إلى أفرعٍ، والأفرعُ إلى أفرع، حتى يشكل متاهة لا يمكن الاحاطة بها. وأبرز ما يتميز به صفةُ الأناقة والجمال. كلُّ دكان عرضٌ فني، كما لو كان لوحة حروفية من فن الخط، في اللون والشكل؛ ودعوات المارة للشراء ليست ثقيلةَ الوطأة، ولا بأس من قطعة حلوى تُقدم إليك من هنا وهناك، او استراحة لشرب الشاي في مقهى مفاجئ. إن هذا العرض لم يبلغ ما بلغه لو أن بُناته عرضةٌ سهلةٌ للاستجابة للمصطرع السياسي. رأيت سُبلَ المواصلات، من ميترو تحت أرضي، إلى ترام، إلى باصات نقل، إلى حافلات بحرية، إلى سيارات تكسي لا تنقطع خدماتها. ثم رأيت قصر الباب العالي الذي ذكرني بقصر الحمراء في غرناطة، بسب توزع بنائه الأفقي بين الحدائق، ثم رأيت "الباروناما" التي تصورُ بثلاثة أبعاد "فتحَ القسطنطينية" على يد محمد الفاتح، الذي ينتصب على فرسه وسط جنوده، فتى لم يتجاوز الواحد والعشرين من العمر. عرض بصري باهر لا يُنسى.كنتُ مبتهجاً في الزيارة، ولكن أسى بالغَ العمق يشوب ابتهاجي. لمَ أراني، أنا العربي، أنفردُ بانحداري أبداً، وكأني ثُلمةٌ في سيفٍ بفعلِ قطعِ الرقاب؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بايدن: اتفاق غزة بات أقرب من أي وقت مضى

خرائط وبيانات ملاحية ترصد 77 خرقاً "إسرائيلياً" لأجواء أربعة دول عربية منذ تهديد إيران

مشعان الجبوري يخاطب "السيادة": اعتذروا والا

أمر قبض ومنع سفر لـ"زيد الطالقاني"

برلماني يكشف آخر مستجدات منصب رئيس البرلمان

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

قناطر: في قراءة قانون الأحوال الشخصية

قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959

الدولة لا الاحكام الظنية من تضع للاسرة تشريعاتها

العمودالثامن: لماذا يطاردون النساء ؟

العمودالثامن: من الشبيبي إلى رشيد الحسيني

العمودالثامن: من الشبيبي إلى رشيد الحسيني

 علي حسين لم يكن الشيخ محمد رضا الشبيبي مجرد سيرة حافلة بالمواقف الوطنية، بل كتاباً غنياً لحقبة من الزمن الجميل، كان الشبيبي يريد دولة تقوم على العقل والأخلاق السياسية والاجتماعية وكرامة الإنسان، كان...
علي حسين

كلاكيت: عماد حمدي.. المسطول الذي رثى مسيرته

 علاء المفرجي إذا ما سلمنا أن الممثل عادة هو من صنع المخرج، فأن انطلاقة الفنان عماد حمدي كانت من تلك الفورة الكبيرة في السينما المصرية ومن نشاط المنتج (شركة أو افراد) التي كانت...
علاء المفرجي

قرنان من التشيع والحوزة في العراق.. من 1722 إلى 1922

علي المدن شاهدت الحلقة التي أعدها الأستاذ أحمد الحسيني على قناته في اليوتيوب وكان عنوانها (صراع قم مع النجف.. هل اقترب ظهور المرجع العراقي). وهي حلقة غنية بالمعلومات تنم عن جهد كبير بذله الحسيني...
علي المدن

الدولة لا الاحكام الظنية من تضع للاسرة تشريعاتها

هادي عزيز علي اعتمد الفقهاء المسلمون الاحكام الظنية التي تتسع فيها دائرة الاجتهاد اذ استنبطوا منه الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي فيما لا نص فيه للوصول الى قواعد عملية تتعلق بادارة الشان العام بما...
هادي عزيز علي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram