حضور الرمز في الوجود الثقافي، يعني الكثير . ولعلَّ أول ما يعنيه تأكيد أهمية الثقافة في تحوّلاتنا اليومية، لاسيّما التحوّلات التي يرقبها الشارع على الصعيد السياسي، وتشكيل الدولة، ثم ترميم ما خُرب على كل الصعد. وهنا لابد أن نشكر الهيئة المشرفة على البر
حضور الرمز في الوجود الثقافي، يعني الكثير . ولعلَّ أول ما يعنيه تأكيد أهمية الثقافة في تحوّلاتنا اليومية، لاسيّما التحوّلات التي يرقبها الشارع على الصعيد السياسي، وتشكيل الدولة، ثم ترميم ما خُرب على كل الصعد. وهنا لابد أن نشكر الهيئة المشرفة على البرنامج الثقافي في اتحاد أدباء كربلاء، باختيارها الفنان الكبير (محسن العزاوي) ليكون ضيفاً على مدينة كربلاء.
إن وجود الفنان كان عاملاً في تحريك البنية المنسية من مفردات الذاكرة. فالفنان نموذج كبير، لما يحمله من زخم ذاكراتي من جهة، ومعرفي عام من جهة ثانية، وذاكرة مسرحية من جانب ثالث. لذا كان حضوره بمثابة فعالية للمصدر المعرفي الذي ننشده دائماً. نحن نتطلع إلى نموذج الذاكرة، لا لشيء، إلا أنه يضعنا ضمن محيط صحي، بما يتوّفر عليه من زخم اختزنته ذاكرته، كذلك مما يحمله من وجهات نظر في الثقافة وثقافة المسرح بالذات . لذا كانت انثيالاته متسلسلة، بالرغم من ظروفه الصحية . في حقيقة ما قدمه، توّضحت لدى المتلقي شفاهياً، وهو يُصغي إلى تداعيات (العزاوي) الذهنية، كما لو أنه ينظر في كتاب مرئي، وتطلع إلى كتاب متكلم . فقد وجدنا في تسلسل استدعاءاته منطقاً وصيرورة تشد كل الأحداث، وانبثاق البنيات الثقافية . كما وأنه على عافية في استذكار أقرانه والأحداث التي مر بها ، ليس من باب الاستذكار فحسب، وإنما من باب الزيادة المعرفية الخاصة والعامة. فهو بحكم تاريخه، استطاع أن يستذكر سيرته على صعيديها في الحياة، وصعيد التطوّر في الدراسة والنهل من تجارب تعددت مصادرها، سواء في داخل البلد أو خارجه، خاصة في جيكسلوفاكيا ونيله شهادة الماجستير في المسرح، ومحاولته الحصول على الدكتوراه، غير أن ظروفاً قاهرة ألمت به، حالت دون ذلك. إن بهذا المثل من الاستذكار نوعاً من الدرس، على الصعيدين الثقافي والسياسي، لأن المعوّق الذي حال دون حصوله الدكتوراه، هو اعتقاله مما فوّت الفرصة أمامه. كذلك التحاقه بالخدمة العسكرية . لقد أظهر الفنان (العزاوي) مقدرة فائقة للتوّفر على الموازنة، بين استذكاره للخاص في حياته العامة والفنية، وبين حضور مجايليه من الفنانين، حيث أعطاهم حق الريادة ، كـ (خليل شوقي ويوسف العاني) وقبلهم (حقي الشبلي، إبراهيم جلال) مثلاً . كما وتطرق إلى جانب التدوين لسيرته الفنية، ضمن مجلدات طُبع منها الجزء الأول عن دار الشؤون الثقافية العامّة. فهو بالرغم من صعوبة الكتابة، فقد استعان بالتسجيل الصوّتي للأحداث التي مر بها، والأفكار التي لازمته، كذلك ما أداه من أدوار في مسرحيات عالمية ومحلية وعربية، ثم تاريخ الحركة المسرحية في العراق. إن هذا النمط بحد ذاته مدعاة للفخر والاعتزاز، لأنه يحفزنا كدرس مهم لما يمكننا أن نجريه في قابل الأيام . فالتأكيد على نمط تسجيل الأحداث والسيرة، لابد أن تواكب المبدع وهو على أحسن حال من الصحة. هذا ما أكد عليه الفنان الكبير (محسن العزاوي) وهو يلقي علينا درساً في بناء الشخصية معرفياً بعامة، وتخصصاً. حيث أكد على الجانب المعرفي والثقافي للفنان مهما كان نمط اشتغاله. الثقافة وخاصة الأدبية مهمة للفنان المسرحي. وهذا ما علمته ليست تجربته فحسب، وإنما تجارب الآخرين ممن جايلهم وعمل معهم. وقد ذكر رموزاً فنية، كانت مقتدرة ثقافياً إضافة إلى عمق عملهم وتجربتهم في المسرح، فهم مثقفون كبار قبل أن يكونوا مسرحيين كباراً . الأدب حصراً توأم الفن. هذا ما أكده الفنان وهو يترك ذاكرته تنثال وفق نمط اختلف عن سياق المحاضرات في أماسي المؤسسات الثقافية . مما يدعونا إلى التأكيد على أن هذا النوع من الأماسي، تكتمل من خلاله الفائدة المرجوّة، حيث تعمق الرؤى نحو أفق ثقافي راكز ، بمعنى إعادة الموّقع للثقافة التي تكاد تخضع لتراكم الغبار عليها، بالرغم من محاولات بعض الشباب لإعادة دور الثقافة بعلاماتها (الكتاب، اللوّحة، العرض المسرحي، والعرض السينمائي) وغيرها من الفعاليات التي من شأنها إعادة الهيبة إلى واقعنا العراقي، الذي انكب على وجهه في مداولة سًبل المحاصصة وتوزيع المناصب (الكراس) بـ (عدالة) قوانين جائرة، وقرارات مهلكة. لا يستفاد منها سوى ذوي الأفكار المنحرفة والضالة، التي شغلت وعطلت البلاد لزمن غير قصير في حياة البناء لدى الشعوب، الباحثة عن مستقبلها.