جاء إلى النقد المسرحي من خلال الأدب والقصة تحديداً
أحياناً يُفرض علينا ما يُحيطنا، إلا أننا نرفض تماماً أن نكون جزءاً منه، ها هو يُذكرني بمن يجري بسرعة بعيداً عن كُل ما يُلاحقه من قيح الواقع، وأشوبته، ودماره، يُحاول أن يصنع بخي
جاء إلى النقد المسرحي من خلال الأدب والقصة تحديداً
أحياناً يُفرض علينا ما يُحيطنا، إلا أننا نرفض تماماً أن نكون جزءاً منه، ها هو يُذكرني بمن يجري بسرعة بعيداً عن كُل ما يُلاحقه من قيح الواقع، وأشوبته، ودماره، يُحاول أن يصنع بخيال الحبر عالماً نقياً يُشببهُ تماماً، يضعُ اسماً مستعاراً على كلماته الصادحة ليتقي سوط الجلاد، ويبتعد عن المسارح بعد أن ضاعت هويتها، ويحتضن ما تبقى من ذاكرته التي اعتلاها الشيب، ليكتُب كلماته الأخيرة التي طالما بحثت عن واقعٍ أكثـر نقاءً إلا أنها لم تجد سوى اصابع جريحة تتلمسها بألم، القاص والناقد المسرحي المُبدع حسب الله يحيى، يتحدث لـ"المدى" عن أسباب ابتعاده عن النقد المسرحي، وهل كان للمسرح أثر في خلقه قاصاً أم العكس:
* كُنت وما زلت من الأعمدة المهمة في النقد المسرحي، هل لكَّ أن تُفسر لنا ابتعادك عن ذلك؟ وهل يتعلّق الأمر بالنتاج المسرحي مثلاً؟
- كُنت ناقداً مسرحياً ولكني الآن وأمام هذا النتاج المسرحي غير المسؤول وغير المنظم وغير الهادف إلى أي وضع اجتماعي، فضّلت الركون إلى الصمت، ذلك أن الكتابة عموماً والنقدية خصوصاً، لم تعد مجزية امام قارئ غائب ومسرحيين معتدين بأنفسهم، ووضع ثقافي مترد، يُسيء للمثقف والثقافة، في وقت كان للنقد سطوته وأهميته وهيمنته على المُتلقي وعلى المسرحيين وعلى القيادة الثقافية كذلك.
كما أعتز بأني ساهمت مساهمة ايجابية في إدارة المسرح التجاري في الثمانينيات والتسعينيات، ولم يكن هنالك عرض مسرحي إلا وكنت أول مشاهديه ونُقّاده في آن واحد.
ليس هذا من باب الاعتزاز بالنفس ولكنها الحقيقة التي يذكرها الكثير من المسرحيين، مع اني تلقيت عدّة مصدات ومنفعات أقلها إحالتي إلى محكمة الثورة والمحاكم المدنية الأخرى، والى قيادة التجمع الثقافي السيّئ الصيت، إلا اني بقيت مُتحفظاً بدوري التنويري بهذا المجال.
أما ابتعادي عن النقد المسرحي في السنوات الأخيرة يعود إلى عاملين أولهما، أن معظم العروض تؤخذ من باب اسقاط فرض، لأن دائرة المسرح لابد أن تنتج وهو في العادة انتاج الهدف منه السفر به إلى الخارج ولا حصة للمشاهد العراقي إلا ليوم أو يومين.
إضافة إلى أن في طبيعة هذه العروض اعتمادها التجريد غيرالناضج وتشويه النصوص العالمية لدعوى البحث عن رؤية لمسرحيين والتي بالكاد تحمل شهادة فنية، إلا أن اصحابها يظلون في حالة تعلّم وليس في حالة ابداع، مما يجعل العرض يولد رتيباً ومن ثم يصبح بارداً للمشاهد والناقد على حد سواء، والأمر الثاني الوضع السياسي متدهور على جميع المستويات وهذا متعلق بالجهل والعشائرية والطائفية وهي مجتمعة لتشكل قيوداً قاسية على النقاد والنقد، فكيف يمكن لي مواجهة عواصف عاتية مثل هذه.
* من منظور ناقد، كيف ترى الواقع المسرحي الآن؟
- الواقع المسرحي جزء من واقع ثقافي سلبي لم يشهد له العراق مثيلاً من قبل، فالدولة لم يعد بمقدورها الالتفات الى قوت الشعب وأمنه ولم تعر اهتماماً للثقافة، لأنها لاتدرك أن ما يجري من تردٍ وتدهور الآن هو نتيجة طبيعية لهذا الغياب الثقافي، حيث تنتشر الثقافة السلبية ويشيع التخلف والعنف، والبعض صار يدعو الى الجهادية وينقل الفساد والقسوة في كل ميادين الحياة، هذا الواقع هيمن على المشهد المسرحي فحوّله الى وظيفة انتاجية متردية ولم يعد الفنان المسرحي يتبنى رؤية جمالية، وصار ينظر الى عمله أما نظرة متبخرة أو تنفيذ واجب وظيفي إلزامي كما أسلفت.
* عرفناك قاصاً هل هذا هو الوجه الآخر لحسب الله يحيى المبدع؟ أم تُرى أن النقد المسرحي استنزفك لتبتعد عن القصّ؟
- بالأمس لم تكُن كتابة القصة القصيرة هي الوجه الآخر لي بل هي انتاجي الأصيل والحقيقي، وقد كان انتاجي الادبي الذي تجاوز 40 كتاباً هو نتاج قصصي، القصص عندي عطاء روحي وعقلي، وما من قصة كتبتها إلا وليدة معاناة على مستوى ذاتي واجتماعي ومن دون مبالغة أو اعتداد بالنفس.
انا اكتب القصة بوصفها خطاباً سياسياً معارضاً كُتِبَ بلغة القصة، في حين ظل النقد القصصي كسولاً في ادراك مثل هذه القصص، وهذا لا يعني اني اعوّل على النقد وانتظر منه تقييم تجربتي فهذا شأن النقاد انفسهم لأنني ادرك جيداً توجهاتي ومسؤولياتي الوطنية والاخلاقية لكتابة القصة القصيرة، لذلك كنت اضحي باسمي وانشر قصصاً بالعراق وخارجه بأسماء مستعارة عديدة حتى لا اقع تحت قائمة الحسابات القصرية التي لا يقوى جسدي على مواجهتها وانا في شيخوختي هذه، لقد جئت الى النقد المسرحي من خلال الأدب والقصة تحديداً وليس العكس، ولم استكمل ادواتي النقدية إلا بمشاهدات دائمة وقراءات نقدية، وقد درست النقد المسرحي في المعاهد والاكاديميات بوصفي متلقياً خارج المسار النقدي.
* باعتبار أن النقد عمل تالي للإبداع.. وهو مرتبط بازدهار الأخير، على هذا الأساس هل ترى أن حقبة السبعينيات والثمانينيات هي حقبة تألق العمل المسرحي؟
- هذا السؤال له فروع عدة، أولاً النقد لم يعد تالياً أو تابعاً للإبداع، وانما يسبقه أحياناً ليتحول النص النقدي الى نص ابداعي وتاريخ المسرح يشير الى أن النقد هو من قدم شكسبير الى الساحة الابداعية، النقد يوصف العطاء الابداعي كنماذج متكاملة إلا أن التنظير سابق لها، النقد يضيء الجوانب المعتمة ولا غاية له أن يقدسه أو يمجده، فالإبداع الأساس يحمل صفة الابتكار وهي الوظيفة الأولى له، وحين يغيب الابتكار لا وجود للإبداع، فلماذا نشير الى أمر هو من طبيعة الشيء نفسه.
فعقول السبعينيات والثمانينيات تشكل نجومية في المسرح العراقي وهويته الوطنية التقديمية، أما مرحلة أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات، شهدت تدهوراً نتيجة الوضع السياسي والحروب، وبالتالي كان الأمر يتطلب تغييب الوعي وبحثاً عن صور بعيدة عن الناس، في ظل ازمات دموية واقتصادية حادة.
* هل ننتظر منك عملاً كتابياً تؤرخ فيه مسيرتك في الإبداع؟
- سيرتي الذاتية أنا المعني بها، ولا شغل لآخرين لوجودها، لذلك لا اشغل الآخرين بأمري لأني اعتقد أن كلاً منا سيرته التي تعنيه أمرها، ولكني استطيع القول بشكل صريح، أن معظم ما نشرت يمكن أن تعد صفحات من سيرتي الذاتية الموجعة التي حولتها من همّ ذاتي الى همّ اجتماعي، وهذه هي طبيعة العمل الابداعي الصادق، ومؤخراً انجزت مجموعتي القصصية الجديدة التي تحمل عنوان "أصابع الأوجاع العراقية" التي ستصدر عن دار الشؤون الثقافية هذا العام، وستكون خاتمة حياتي ولا اعتقد اني سأكتب افضل منها، كما لا أجد رغبة في كتابة حياتي الاجتماعية، لأننا ننظر الى الكاتب بوصفه عدواً لدوداً، وأنا في سنواتي الأخيرة، ابحث عن انفاس تستنشق نسمة هواء نقي لا رائحة للدم فيها ولا لعفونة الفساد التي تملأ الأجواء وتلاحق نقائي.