كان جون آشبيري، الذي رحل عن عالمنا مؤخراً عن عمر ناهز التسعين عاماً، يعتبر على نطاق واسع، الشاعر الأمريكي الأكثـر ابتكاراً وتأثيراً من بين ابناء جيله. فقد قال عنه الناقد هارولد بلوم، الذي لعب دوراً مهماً في تأسيس سمعة آشبيري في منتصف السب
كان جون آشبيري، الذي رحل عن عالمنا مؤخراً عن عمر ناهز التسعين عاماً، يعتبر على نطاق واسع، الشاعر الأمريكي الأكثـر ابتكاراً وتأثيراً من بين ابناء جيله. فقد قال عنه الناقد هارولد بلوم، الذي لعب دوراً مهماً في تأسيس سمعة آشبيري في منتصف السبعينيات "لا أحد يكتب الآن قصائد باللغة الإنكليزية تشبه ما يكتب آشبيري في صمودها امام الأحكام الصارمة للزمن".
ولكن اعمال آشبيري أثارت الجدل أيضاً في كثير من الأحيان. عمله المبكر قَسَم ملعب التنس (1962) تم رفضه من قبل أحد الناقدين الذي وصفه بأنه قمامة". وحتى بعد أن صدر في عام 1975 ديوانه الشعري (صورة ذاتية في مرآة مُحدّبة) الذي نال عنه جائزة بوليتزر للشعر، والجائزة الوطنية للكتاب والجائزة الوطنية لجماعة نقّاد الكتاب، مما رفعه إلى مصاف النجومية، لم ينج من المشككين والمعارضين.وقد تم تقليد أسلوب آشبيري المميز على نطاق واسع، وتمت دراسة قصائده في العديد من الكتب المهمة والمقالات الأكاديمية وأطروحات الدكتوراه، وتقدم اعمال آشبيري منذ تجاربه الشعرية المبكرة جداً، مثل ديوان بعض الأشجار والرسام، وكلاهما قد كتبهما عندما كان في الحادية والعشرين من عمره فقط، إلى كتاباته في سنوات لاحقة، صورة خيالية جياشة بالمشاعر وتأمل ذاتي متطور للغاية يعكس تجربته الحياتية.وكان من أكثر ابتكاراته جذرية السيولة التي سمح للضمائر بالعمل فيها، وهي العادة البلاغية التي عبّر عنها افضل تعبير، صديقه كينيث كوخ، وبشكل ساخر حين وصف استخدام آشبيري النموذجي لها: "كإنها تريد أن تذهب إلى الفراش معنا". وعندما طلب التعليق على هذا الجانب من عمله، قارن آشبيري ضمائره مع "المتغيرات في المعادلة الرياضية ": "الضمير أنت "يمكن أن تكون انا أو يمكن أن تكون شخصا آخر، شخص أتحدث اليه، ويمكن أن يكون الامر ذاته مع ضمير " هو" و" هي" و "نحن".إن عدم الدقة التي أسفرت عن ذلك، سمحت لشعر آشبيري بالقبض على تفاعلات العديد من النقاط التي تحيط بنا مع اثراء وتعقيد جديدين. قصيدة مثل دافي داك في هوليوود تمزج الإشارات مع الرسوم المتحركة لوالت ديزني. ولد آشبيري في روتشستر في نيويورك، وكان والده مزارعاً، وكانت زوجته المعلمة هيلين، تدّرس علم الأحياء. توفي شقيقه الأصغر، ريتشارد، في مرحلة الطفولة جراء اصابته بمرض سرطان الدم. ووصف والده بأنه كان عرضة لاهتزازات عنيفة، مما جعلته يشعر أن الحياة في مزرعة الفاكهة في ولاية نيويورك كانت "مثل العيش على حافة بركان متوقد ". كانت أسعد فترات طفولته تلك التي أمضاها مع أجداد أمهاته في روتشستر، وفي كوخهم الصيفي في بلدة بولتنيفيل.
وقد التحق بالمدرسة في روتشستر، ولكن في سن السادسة عشرة، تم إرساله إلى أكاديمية ديرفيلد، وهي مدرسة خاصة في ماساتشوستس. هناك بدأ كتابة الشعر بجدية، وقد استوحى قصائده أساساً من أشعار أودين وأوكتافيو باز. وكطالب جامعي في جامعة هارفارد، تخصص في اللغة الإنكليزية، وعمل في هيئة تحرير مجلتها الأدبية. وخلال فترة عمله في جامعة هارفارد، تعرف على أودن، الذي سيختار أول مجموعة شعرية لآشبيري، بعنوان بعض الأشجار، لينشرها في عام 1956 في سلسلة ييل المرموقة للشعراء الشباب . كما التقى حينها بالشاعرين كوخ وفرانك أوهارا؛ اللذين سيصبحان كلاهما صديقيه مدى الحياة، وسيتم ضمهما مع آشبيري، جنباً إلى جنب مع جيمس شويلر، كأعضاء أصليين لما أصبح يعرف باسم مدرسة نيويورك.انتقل آشبيري إلى نيويورك في عام 1949، ودرس للحصول على درجة الماجستير في جامعة كولومبيا (منحت له في عام 1951)، ومن ثم عمل في دارللنشر لمدة أربع سنوات. في عام 1955 حصل على منحة فولبرايت الى فرنسا.التي أخذته في البداية إلى مونبلييه، لكنه سرعان ما وجد نفسه يقضي الكثير من وقته في باريس، خاصة بعد أن التقى بالكاتب ، والروائي والشاعر بيار مارتوري الذي اهدى له مجموعته الشعرية قَسَم ملعب التنس، كانت إقامته في فرنسا تحولاً في حياته، حيث أصبح أكثر انفتاحاً وتعاطياً مع المنجزات الشعرية في فرنسا وأوروبا. ومثلما تأثر بإقامته في فرنسا، أثّر كذلك. يقول الأميركي هاري ماثيوز: "أظن أن حياتي الكتابية بدأت حين قابلته. كان قد نشر كتابه الأول، لكنه لا يتحدث أبداً بالكثير عن الشعر. كان منضبطاً جداً، رغم الحياة التي يعيشها في الليل؛ مخموراً ومحمولاً. أخبرني عن الشعراء الفرنسيين المعاصرين مثل بيير ريفيردي وهنري ميشو، ولم أكن قد قرأت أياً منهم. بعد أسبوعين، أعطيته قصيدة، قرأها وقال: أرى أنك قرأت كل الشعراء الذين رشحتهم لك. لكني لم أكن قد فعلت. ذِكره لهم، والوصف الوجيز، كانا كافيين لتبديل كتابتي. وهناك أمر آخر مهم فعله؛ عندما سألته هل مقبول أن أفعل هذا أو ذاك في قصيدة؟ أخبرني أنه يمكنني فعل أي شيء أريده. وكان ذلك وداعاً لنماذج نيويورك أو أية نماذج أخرى. في حياتي كان هذا تحولاً جذرياً. كنت دائماً حريصاً على أن تكون الأمور في نصابها الصحيح". تأثّر بالشعر الفرنسي وبموجة السوريالية تحديداً، التي تركت أثرها في معظم قصائده وجعلتها مختلفة عن نتاجات مجايليه، ورغم كثرة المقلّدين والمتأثّرين به، خصوصاً في سبعينات القرن الماضي، إلّا أن شِعره كثيراً ما وُصف بالتعقيد والغرابة.عاد إلى الولايات المتحدة في مرحلة سادتها تحوّلات اجتماعية وثقافية عميقة تمثّلت في ثورة الطلاب وظهور تيارات ما بعد حداثوية في الموسيقى والفن، وثقافة المخدرات والروك. ويقول عن ذلك: كانت حضارة تقليدية بأكملها قيد الانهيار، ولربما كانت اللحظة مواتية بالنسبة إليّ لتقديم شِعري".وقد حصل على العديد من الجوائز والجوائز من بينها وسام روبرت فروست، وجائزة فيلترينيلي، وجائزة غريفين الدولية للشعر، وميدالية العلوم الإنسانية الوطنية ، التي منحها له الرئيس باراك أوباما في عام 2012. وترجمت اعماله إلى عشرات اللغات.
عن: الغارديان