في نظام ديمقراطي يحتكم إلى الدستور ويعتمد المواطنة، تتاح الحريّة لتعدد الآراء والتوجّهات والبدائل، ويُحفَظ لكلّ فرد وحزب وجماعة الحقّ في الاختلاف والتعارض، ويُساءل ويُحاسب ويُلاحق قانونيّاً مَن يتعرّض بأيّ وسيلة لهذا الاختلاف والتنوّع ويجعل من أصحابه عرضة للتهديد جسديّاً أو معنويّاً .
لكنّ هذه الممارسات الديمقراطيّة، حتى وإن كان الخلل يعتورها أو تبدو خارج سياقاتها التقليديّة، يستلزم من السلطات الثلاث وبشكل خاص السلطة التشريعية أن تتعامل معها بمنتهى الحساسيّة والشعور بـ" المسؤوليّة الوطنيّة " وتجنّب خدشها وتشويهها، أو مواجهتها بما يُجرِّد هذه السلطة من كفالتها الدستوريّة، حين تنتقل إلى طرفٍ في ما هو موضع خلاف، أو التطرُّف في معالجتها بحيث تُصبح هي جزءاً سلبيّاً في القضيّة الخلافيّة .
وفِي هذه المرحلة المأزومة التي تجتازها البلاد، تزداد مسؤوليّة السلطة التشريعيّة وتُضاعَف مواقفها وقراراتها في تفاقم ما هو مأزوم، بل قد تدفع إلى مضاعفاتٍ تُعرِّض السلامة الوطنيّة ونسيج المجتمع إلى مزيدٍ من التشظّي.
أمس الأول سارع البرلمان إلى إمرار قرار يتناول الاستفتاء المزمع إجراؤه في إقليم كردستان في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، وهو المتّهم في الشارع العراقي بالتستّر على قضايا فساد وإخفاء مشاريع قانونيّة مستحقّة دستوريّاً، وعدم رفع الحصانة عن مطلوبين للقضاء، ودعاوى أخرى قد تكون صحيحة أو باطلة .
وليس وارداً منع البرلمان من اتخاذ ما يرى من قرارات أو تشريعات وفقاً لنظامه والدستور . لكنّ هذا الحق يفرض عليه في المراحل المتأزّمة والقضايا التي تتعلّق بمصائر البلاد أن يتجرّد من عاطفة أعضائه والمصالح الفئويّة التي تُشكِّل دافعاً لها، ويحتكم إلى العقل والحكمة والمصلحة الوطنيّة. ومثل هذا الاحتكام يفرض بالضرورة على البرلمان أن يبحث في كل ما يُخفِّف الاحتقان في الشارع، ويفتح باباً وخياراتٍ لحلول قد تتحقّق أو لا تتحقّق ، لكنّه في كل الأحوال مطالبٌ بأن يمارس هذا الدور الإيجابي، وينأى بنفسه عن التحوّل إلى طرف مأزوم يُفاقم من الأزمة التي تواجه البلاد .
وفِي الحالة الخاصة بمعالجة الموقف من الاستفتاء كان على البرلمان أن ينحاز إلى موقفٍ يدعو إلى التهدئة شعبيّاً، ويُحذِّر من الشحن والتحريض والتعبئة على المواجهة. وكان عليه قبل ذلك أن ينصح الحكومة ببذل كل الجهود لإيجاد مخارج آمنة للخلاف مع الإقليم وطرح بدائل مقبولة ومُقنعة تستجيب من حيث الجوهر لما يطالب به الشريك الكردستاني في إطار حلٍّ وسطٍ وبديلٍ عقلاني .
لقد تجاوز المصوّتون على قرار أمس الأول دورهم الإيجابي وتبنّوا خيار التصعيد، ولم يلتفتوا إلى إدانة تصريحات تُحرّض وتُعبّئ ضد المواطنين الكرد خارج الإقليم وتستنفر مرضى العقول للتحفُّز منذ الآن للتنكيل بهم. وهذه التصريحات التي أدلى بها بعض أعضائه ممن كانوا دائماً في مواقع التعبئة السلبيّة المضادّة لوجهة الحفاظ على الشراكة والتوافق الوطني .
كان على البرلمان أن ينطلق من الأرضية التي دعا إليها رئيس الوزراء بعد اجتماع مجلس الوزراء بالتشجيع على الحوار وتجنُّب كلَّ ما يؤدي إلى التعبئة المضادّة .
إنّ بعض البرلمانيين يجدون في اللاءات المتكرّرة لما يتعارض مع توجّهاتهم ومصالح مَن يتولّون التصويت عوضاً عنهم، الحلّ، مع أنه كان السبب وراء كلّ ما تعرّضت له البلاد من نكبات وانحدار .
لاءات المجلس كانت وراء تعطيل قانون النفط والغاز والمادة ١٤٠ ومجلس الخدمة العامة ومجلس الاتحاد والمحكمة الاتحاديّة، وعشرات التشريعات التي تدخل في صلب استكمال هياكل ومرتكزات الدولة المدنيّة الديمقراطيّة .
إنها لاءات أورثت العراق الجديد كلَّ ما يعانيه وما ينتظره من بلايا ومحن، وهي أفضل تمثيل للقول الذي صار مأثوراً " ما ننطيها! "