صموئيل بيكيت كان فناناً وكاتب مسرح بامتياز، لكنه مع ذلك لم يفلت من مصيدة السينما، فلقد تمت أفلمة مسرحيته في انتظار غودو الشهيرة ومسرحية " كوميديا" حيث حولها المنتج والموزّع والمخرج التجريبي ماران كارميتز إلى فيلم روائي متوسط الطول مكتفياً بنصب كاميرا
صموئيل بيكيت كان فناناً وكاتب مسرح بامتياز، لكنه مع ذلك لم يفلت من مصيدة السينما، فلقد تمت أفلمة مسرحيته في انتظار غودو الشهيرة ومسرحية " كوميديا" حيث حولها المنتج والموزّع والمخرج التجريبي ماران كارميتز إلى فيلم روائي متوسط الطول مكتفياً بنصب كاميرا سينمائية أمام الممثلين المدفونين في جرار حجرية ولا نرى سوى رؤوسهم.
وبيكيت هو مخرج الأثر السينمائي الوحيد في حياته تحت عنوان " فيلم" والذي كان بمثابة آخر ظهور للمثل الشهير باستر كيتون. وهو فيلم سينمائي قصير وصامت. حيث صور بيكيت وجه باستر كيتون الشاحب الخرب والمثير للشفقة في فضاء أو مكان فارغ مقفر ومهجور في نيويورك ، قبل أن يتوفى الممثل بفترة قصيرة . كما صورت مسرحيات بيكيت مثل " آه ايتها الأيام الجميلة " . أما المخرج السينمائي الفرنسي مارسيل بلووال فقد حقق عملاً سينمائياً أصيلاً عن نص لبيكيت بعنوان "كل هؤلاء الذين يسقطون" سنة 1957.
وعلى عكس ذلك كان المخرج السينمائي السويدي آنغمار بيرغمان، فهو سينمائي محض، لكنه يعشق المسرح وقام بإخراج عدة مسرحيات وأخرج أوبرا موزارت " الناي السحري" سينمائياً وفي داخل الفيلم هناك إخراج لمسرحية أو استعمالات لمشاهد مسرحية . وهناك فضاءات مصغرة أو نماذج مصغرة لماكيتات مسرحية في فيلم " ساعة الذئب" أستخدمت كمكان لاستعادة الطفولة، مسرح الظل والضوء وهو عبارة عن تداخل للتواصل الشمولي ورحلات الذات المنطوية . وغالباً ما يشير آنغمار برغمان في أفلامه لممثل المسرح المأخوذ على انفراد أو كعضو في فرقة . وكان فيلم "الختم السابع" بمثابة إشارة مهووسة تقريباً للإمساك بهذا العالم على حافة الكون للحد من قساوته بما هو مملوء بالمرض والجنون والوحدة والموت الشفافية في صورة القطع المكافئ واستعادة الصفاء في فضاء اللعب. وهي الصورة المثالية التي تخيم على هذه المحاكاة التي ينزلق فيها الممثلون في فيلم " ٌالشعيرة Rite" في سجن التبعية المتبادلة وفضاعة الشعور بالذنب التي لا يمكن طردها كما يطرد الشيطان في التعويذة، إلا من خلال ممارسته وتطبيقاته الإخراجية ومنهجيته الملموسة في أفلام "المرآة" و "برسونا" وإحكام الارتباط الصريح والجلي بين الكوميديا والمرض وانفصام الشخصية "الشكيزوفرينيا" وهي ممارسة صعبة ومعقدة تقع على عاتق الممثل البيرغماني وفي كل الأحوال المقصود من ذلك هو الممثل المسرحي تحديداً أو ممثلي المسرح كما لو أن التمثيل على الشاشة ليس سوى انحراف أو اشتقاق أو مشهد ثانوي ، أو الزمن اللاحق حيث تسجل الكاميرا التمزق الحاد أو المسيل الدقيق للدموع.
اشتهر بيرتولد بريخيت بأنه من أعظم منظري المسرح البديل والمسرح الملتزم وبنظريته في التغريب المسرحي في ألمانيا والعالم برمته. وهو من مواليد القرن التاسع عشر 1898 وتوفي في منتصف القرن العشرين 1956، أي إنه عاصر اكتشاف السينما منذ أيامها الأولى وبالتالي من غير المنطقي ألا يهتم بهذا الفن الذي يمس ويصل إلى أوسع عدد ممكن من المشاهدين وله تأثير كبير جداً على حشود هائلة من المتفرجين، أوسع بكثير من حدود صالات العرض المسرحي الصغير والمحدودة في برلين التي تعرض فيها مسرحياته وهناك قصص متداولة عن ارتباطاته بصناعة السينما وعلاقته بأساطينها وسيناريوهاته غير المنفذة وما واجهته من احتقار وإهمال بسبب طروحاتها السياسية الملتزمة.
في عام 1928 كان نجاح نصه " أوبرا القروش الأربعة" قد لفت أنظار منتجي شركة نيرو فيلم. وسبق لبرتولد بريخت أن كتب أو ساهم في كتابة عشرات السيناريوهات التي لم تخرج للسينما ولم يفلح هو بإخراج أيِّ منها مثل "صاقل الجوهرة"، و" والدة بحارة العالم" و " الأم " وغيرها. إلا أن أبورا القروش الأربعة قد وفرت له أول فرصة حقيقية للولوج إلى عالم السينما وقد أعرب عن ذلك أصحاب شركة الإنتاج نيرو فيلم بالقول "وجدنا في هذا المشروع فرصة لكسب المال وصنع فيلم جيد في نفس الوقت". ولقد أعطي لبريخت في العقد الموقع معه حق التدخل وإلقاء نظرة على عملية الإعداد السينمائي لنصّه المسرحي الذي كلف هو للقيام به نظراً لما يحتويه من مضامين سياسية. إلا أن هذا العمل لم يعجب شركة الإنتاج التي ألغت العقد معه مما دفع بريخت لإقامة دعوة قضائية ضد الشركة وربح المنتج الدعوة، لكن القضية أحدثت ضجة كبيرة في الأوساط الفنية وحاول بريخت نقل الموضوع للنقاش العام وإشراك الجماهير وتوسيع النقد ليطال طبيعة الإنتاج الرأسمالي الضخم ونظام النجوم ونقد المؤسسة الصناعية السينمائية برمتها والتركيز على حقوق المؤلف . تلقى فيلم المخرج بابست الانتقادات والهجمات السياسية وامتصها باسم الحنين إلى أساليب الماضي في معالجة المواضيع وتقديم المجرمين على نحو مثالي، مع الاحتفاظ بالقيمة الفنية العالية للمعالجة السينمائية والنوعية الراقية في لغته الإخراجية وهو إعداد حر عن نص بريختي .
في عام 1931 صور المخرج سلاتان دوداو فيلم "بطون مثلجة " عن سيناريو لبرتولد بريخت حيث تدفع مأساة البطالة عاملاً شاباً للانتحار وعائلته المطرودة من مسكنها بالقرب من برلين لتعيش في مخيم بائس من القماش ومن خلاله يعرض بريخت دعاية الحزب الشيوعي الألماني ودحضه وإدانته للفقر ودعوته للعدالة الاجتماعية والتضامن المجتمعي والمدعوم بالأغنية السياسية النضالية التحريضية التي أداها هانس آيسلر للمزيد من التأثير النفسي على المتلقي، ولقد منعت الرقابة عرض الفيلم خوفاً من محتواه السياسي . وهذا هو الفيلم الوحيد الذي نال رضا وموافقة بريخت خلال منفاه السياسي في أمريكا، لكنه لم يتوج بالنجاح الجماهيري المأمول منه . ولم يفلح بريخت في إنجاز عشرات السيناريوهات والنصوص والقصص التي قدمها لصناعة السينما بسبب رؤيته المسرحية الضيقة للغة السينمائية التي توسلها . لقد تعاون برتولد بريخت مع المخرج الألماني العظيم المنفي هو الآخر في أمريكا فريتز لانغ في فيلم "الجلادون يموتون أيضاً" سنة 1942 لكن التعاون توقف في مرحلة السيناريو وطلب بريخت أن يسحب أسمه من عناوين الفيلم. ولم تنجح حتى ألمانيا الديموقراطية الاشتراكية أن توفر لبريخت السبل والإمكانات اللازمة لتحويل آثاره المسرحية إلى أعمال سينمائية ناجحة ومقبولة، أي لم تسهم في خلق سينما يريختية على غرار المسرح البريختي الشهير، فالسينما عصية على التلائم والتوائم والتوافق والتأقلم مع الرؤية الجمالية البريشتية، ومفهوم التغريب المسرحي يصعب تطبيقه سينمائياً في ذلك الوقت قبل ظهور المدارس السينمائية الحديثة الجريئة التي كسرت حاجز التقمص والتماهي بين الجهور والعرض وطبقت مفهوم التغريب البريخيتي سينمائياً كما شاهدنا ذلك في أفلام غودار أحد أشهر أعمدة مدرسة الموجة الجديدة الفرنسية، وتجاوز وهم الواقع الملتصق بالسينما التقليدية. فلكي تكون بريخيتاً في السينما ينبغي أن تفهم فكره وتفكيره ومفاهيمه ورؤيته المسرحية أكثر مما هو التعرف على تجربته السينمائية الفاشلة.
المبدع المسرحي بيتر بروك نموذج آخر لهذه العلاقة المعقدة بين المسرح والسينما، وهو من مواليد 1925 وما يزال على قيد الحياة ومستمر في عطائه المسرحي المذهل خاصة ملحمة رامايانا" المهابهاراتا".قدم بروك في سن السابعة عشرة فاوست لمارلو، وفي سن العشرين قدم نص "الآلة الجهنمية" لكوكتو، لكنه اشتهر بمعالجاته المسرحية المتميزة لمسرحيات شكسبير "روميو وجوليت" سنة 1947 و "حساب مقابل حساب" سنة 1978 وهو من المعجبين المتيمين بأنطونان آرتو الذي سعى للكشف عن مكامن العنف الخفية مقابل العطف والرقة الإنسانية الشكسبيرية وعبر جميع تجاربه السينمائية القليلة، نعثر على نفس التوتر والحدة والضغط، حيث هي السمة الطاغية في عالم آرتو.