يشيّد الشاعر ، الفنان ، عالماً صغيراً جميلاً وممكناً بيده ، غير أنه يحاول أكثر من مرة أن يتعلم كيف يرعاه قبل أن يجعله جزءاً من حياته ، ثم يجد له الكثير من المسوغات ليصبح في وضع يقنع الآخرين بأنه إنما يفعل ذلك ليشركهم معه في فرحة الخلق ، كما هو شعوره
يشيّد الشاعر ، الفنان ، عالماً صغيراً جميلاً وممكناً بيده ، غير أنه يحاول أكثر من مرة أن يتعلم كيف يرعاه قبل أن يجعله جزءاً من حياته ، ثم يجد له الكثير من المسوغات ليصبح في وضع يقنع الآخرين بأنه إنما يفعل ذلك ليشركهم معه في فرحة الخلق ، كما هو شعوره إزاء ما يفعل ، وهكذا يصبح الصدق وسيلة للوصول إلى أعمق اللحظات التي تسكن فيه . هذا ما يحاوله الشاعر فاضل عباس هادي عبر قصائده وكتاباته ، ولقطاته الفوتوغرافية ، فمنذ أن قدّم نفسه كأحد الأصوات الستينية ، بعد ان نشر قصيدته ( قدح من الدموع المجففة إلى أوديت ) في العدد الثاني من مجلة شعر69، وهو يمضي في رحلته التي تضيء وتشفّ من وراء أمسه الذي غاب ، الأحداث التاريخية أنضجت وعي الحداثة لدى فاضل ، وشكّلت الكتب التي (يلتهمها ) باللغة الإنكليزية ، منطلقه الإبداعي ، غادر مدينته الجنوبية (الناصرية ) ، ودرس في معهد اللغات العالي، وعمل في الصحافة ، عمّق ( حفل )إعدامات علنية في ساحة التحرير عام 69، إحساسه بالهروب ، وبه توق نحو الإستكشاف ، وحلم أوربا ، مغامراً وحده بلغته الخاصة التي إكتشفها ، وبمفرداته التي تحمل ألواناً ورموزاً جديدة .
في كتابه ( لمسات ورّاق فرنسي الهوى ) ، الصادر في لندن عام 2017 عن دار شبّر ، يريد فاضل أن يمنحنا الفرصة للمقارنة بين ثقافتين مختلفتين ( الإنكليزية والفرنسية ) ، في العادات والسلوك واللغة والتاريخ والعمران ، والسياسة والإنتاج .ويبدو فاضل ساخطا على ( الإنكليز ) منذ صفحات الكتاب الأولى ، على الرغم من انه يعيش في إنكلترا منذ ثلاثين عاما ، ويحظى برعايتهم .هنا لايقتلونك فحسب ، إنما يمثلون بجثتك أيضا !!كما ان اكثر الكتب إنتشاراً هي كتب الجريمة والجرائم ، وفاضل لايشعر بمتعة في القراءة باللغة الإنكليزية ، ويفضل عليها الفرنسية ، لأنها تضفي على النص الانكليزي جمالاً هو على الاغلب غير موجود ، الا نادراً، انها لغة لاتعرف الحياء ولا العواطف الانسانية ، يقول : كلما هممت بقراءة شكسبير تهيأ لي اني ، انما أكسر جمجمة نمر بفأس راسكولينكوف . يعيش فاضل في لندن مفعما بالتداعيات ، وبالود الصافي لذكريات أليفة نسجها هواه عن باريس التي لم يمكث فيها سوى سنوات قليلة ، الآراء التي تبدو أكثر إثارة للجدل ، تلك التي تتناول التراث الأدبي والثقافي الانكليزي برمّته ، وإنحيازه المطلق للثقافة الفرنسية التي يتحدث عنها بلغة العاشق الولهان ، يقول : مئات الكلمات ، تتأبطها خيراً ، تمشي جنبك ، تحملها معك ، تشد عليها بيدك كمنديل من حرير ، ترافقك الى الابد بالسلامة ، لاتخذلك ولاتخونك ، كلمات تجمع بين الشحنة العاطفية والصوتية ، أندريه بريتون رفض تعلم الانكليزية لئلا تفسد عليه جمال فرنسيته ، والسريالية والانكليز لايلتقيان ولايتصافحان ، السريالية مزاج فرنسي أصيل .مسرحيات شكسبير دموية ، بلاإنسانية ، أبطاله ( الملك لير ، هاملت ،ماكبث ، يحملون سيوفهم المستقيمة الطويلة ، ذات المقبض المتصالب الكريه معهم دائما ، ومن الأفضل أن يكون ملطخاً بالدم ، كيف يتسنى لفاضل أن يجعلنا قادرين على فهم أفكاره ؟ وهو الذي يقول صراحة : لست موضوعياً ولست عقلانياً ، ولدت محصناً ضد التحليل والديالكتيك .فالكتّاب العرب الذين درسوا في إنكلترا أوتأثروا بالثقافة الانكلو – سكسونية ، المصريون منهم ( بإستثناء سلامة موسى ) والعراقيون ، بما فيهم عبد الواحد لؤلؤة ، متخشبون وشرايينهم الروحية متصلبة ، والإبتسام على ما يبدو فارق كتاباتهم منذ زمن طويل ، لاأستطيع قراءتهم على الإطلاق ، طه حسين طرب لسماع صوت رفيقته الفرنسية ووقع في حبها وتزوجها . يتحدث عن تجاربه العاطفية ، يقول : كلما تعرفت على فتاة بريطانية أكتشف انها سحاقية ، مثلية ،الانكليز في نظر فاضل بلا عطر أو نبيذ ، ولا لغة حب ، لغتهم لغة المال والحروب .
فاضل لايكتفي بنسف الثقافة الانكليزية ، بل يمضي بعيداً في إقتلاع جذور المشهورين الذين كتبوا بلغتها ، فقصيدة الارض اليباب لإليوت عادية وتخلو من التوهج الشعري ،ومترجمها لؤلؤة من المثقفين العرب الأحادي الثقافة ، يصح عليه قول همنغواي لان صوته باهت ومريض : لو اتيح لي لطحنت عظام اليوت وذروتها رماداً على قبر جوزيف كونراد ، وأهم منجزات همنغواي انه كنس غبار العصر الفكتوري من الرواية الانكليزية .
فاضل لايترجل من صهوته ، عقله مسكون بفرنسا ، حتى الورد لايهرب من الجنائز، الدروب الوعرة فيها تتحول الى احتفال ، المطر على بعد خطوات مثل الغناء في آخر الليل ، شوارعها ضفاف من الليل ، من مثل فرانسوا ساغان ، مراهقة تكتب رواية بعنوان ( مرحبا ايها الحزن ) ؟ :كادت ان تخطف حبيبة سارترسيمون دوبوفوار ، حدث لاتجده الا في فرنسا . أوصيكم بقراءة كامو سطراً سطراً ، ومن سارتر إقرأوا له الثلاثية ، تعرفوا بان ساكنيها لم يكونوا سيئين كلهم . طروحات فاضل تنبع من جدارته في نبش الكتب ، التي كان شغوفاً بقراءتها ، منحته أكثر من مفتاح للدخول الى عصره ، القدرة على التفكير وطرح الأسئلة والتجريد ، الكتاب ملك حواسه ، التي ظلت معلقة بأول كتاب قرأه لأندريه جيد حين ذكر : العالم يبدآ لينتهي بكتاب، منه ظل يفتش عن كنز يعرف أوصافه ، منصتاً للاصوات القادمة من الماضي ، منذ صباه راح يقرأ في اللغات ، فكانت له مؤنساته ، وخلواته مع الكتاب في صنوف الادب والمعرفة ، لذا يقدم لنا فاضل أثرا جميلا وممتعاً ، على الرغم من مفرداته ومتضاداته ، ومشاكساته ، انه هويته الخاصة وحده ، الممتع فيه انه يمنح القارىء قدراً كبيراً من المعرفة في الأسماء والاماكن والكتب والثقافات ، كشوفات فاضل لاتأتي عن هوى ، غير مسرف في النص ، ولربما يكون هذا الكتاب مشروعا ً مضموما للغد ، فاضل لايسعى للشهرة ، ولا الى تكريم ، كما يقول عنه صديقه رياض رمزي ، انه شاعر مهنته دفع الغرامات ، سيرته مزيج من الشعر والنثر ، الشاعر عواد ناصر اكثر وضوحا وصدقا في القول : انه مثقف عميق الغور( أنتيك) ، قليل أمثاله في أسواق ثقافة اليوم ، وإذا كانت الكتابة مواجهة جريئة مع الذات والعالم فان فاضل أدى هذه المهمة بطريقته الخاصة ، مثقف مسؤول عن خراب العالم ، أو لاجتياز الحزن .