TOP

جريدة المدى > عام > (شجرة البمبر) لفاتن الصراف... سيرةٌ في فن الانتباه

(شجرة البمبر) لفاتن الصراف... سيرةٌ في فن الانتباه

نشر في: 14 سبتمبر, 2017: 02:03 م

سُلّمٌ من خمسِ درجات، كان يفصل بين حديقة المنزل ونهر صغير مُتفرع من شطِّ العرب .. بهذا المفتتح المكاني، تبدأ المعمارية فاتن الصراف رحلتها الجمالية في دروب سيرتها الشخصية وقصتها مع الهوس بالعمارة في كتابها الجميل (شجرة البمبر). من بيت الطفولة الوديع،

سُلّمٌ من خمسِ درجات، كان يفصل بين حديقة المنزل ونهر صغير مُتفرع من شطِّ العرب ..
بهذا المفتتح المكاني، تبدأ المعمارية فاتن الصراف رحلتها الجمالية في دروب سيرتها الشخصية وقصتها مع الهوس بالعمارة في كتابها الجميل (شجرة البمبر). من بيت الطفولة الوديع، الذي ينام عند ضفة الماء، وقنوات محلتها المتفرعة من شط العرب، تنطلق نحو عالم أختارته بنفسها وهي لم تزل صغيرة.
ـ أريد أن أكون مهندسة معمارية.
من فوق درجات هذا السلم، تراقب الطفلة الحياة من حولها وتتعرف بفطنتها على تلك العلاقة الملتبسة بين الطبيعة والثقافة. بين الطابوق الحجري وموجات المد والجزر. تخطط لحياتها، مدفوعة بالرغبة الخفية والغامضة، التي تطرق باب طفولتنا، لنرسم هدفاً بعيداً ثم نمشي نحوه. قد يدفعنا المد سريعاً نحو خط النهاية، وقد يسحبنا جزر الأيام إلى تخوم بعيدة وننسى أهدافنا. لكن فاتن الصراف، عاندت كل الظروف وحققت حلمها. وهي حين تروي قصتها مع هذا الحلم، إنما تحكي لنا جانباً من قصة بلد من خلال أهم حاضرتين فيه، هما ميناؤه وعاصمته. فقد ولدت ونشأت في مدينة البصرة، ودرست واستقرت في بغداد، قبل أن تغادر بلدها في هجرة طال أمدها.
العمارة العراقية الحديثة، متن مهم في ثقافة هذا البلد، لديها تاريخ مستقل  وأجيال تواصل كتابة هذا التاريخ الخاص. وهذه ميزة، لم أطلع على مثيل لها في العمارة الشرق أوسطية في أقل تقدير. فقصة العمارة البغدادية، التي اقتربت في مراحل تأسيسها من مدرسة التشكيل العراقي وتماهت معها، استطاعت أن تحرر نفسها من النسق الوظيفي الصرف، وتلتحق بالبعد الجمالي والإبداعي بشكل ملحوظ.  فمع مؤلفات رفعت الجادرجي ببعدها الفلسفي والجمالي وسيرة محمد مكية بعمقها الأنثربولوجي ومؤلفات معاذ الآلوسي التي واصلت الرحلة المعمارية حتى مطلع ثمانينات القرن الماضي، بالإضافة إلى الدراسات القيمة والفريدة التي أغنى بها المكتبة الدكتور خالد السلطاني، لم تعد العمارة البغدادية هي تاريخ العمران، بقدر ما هي تاريخ ثقافي وجمالي، يحكي قصة بغداد من زاوية خاصة لم تتح لسواها من عواصم المنطقة. ولئن غلبت المذكرات على مؤلفات الجادرجي ومحمد مكية ومعاذ الآلوسي باستثناء بعضها،  فإن ما قدمه الدكتور خالد السلطاني من مؤلفات يعد دروساً في تلقي الخطاب المعماري والتفاعل معه. في هذا السياق، ومن جيل متأخر نسبياً، تقدم فاتن الصراف كتابها (شجرة البمبر) إلى المكتبة العراقية في إضافة جريئة ومهمة، تعيد العمارة وليس سواها، بوصفها السارد المركزي للأحداث المعقدة التي شهدتها البلاد. بطريقة أدبية تقترب من فنون السرد الحديثة. عبر مرورها السلس على كل تلك التفاصيل اللذيذة، التي لايمكن أن تتوقف عندها عين عابر عادي، لا يتمتع بالحس العميق بالأمكنة، وتلك الذاكرة الحيّة النابضة، التي تجعل من هذه التفاصيل تعيش معنا.  في رحلتها من الطفولة إلى مستقرها الأخير خارج بلدها. نواصل معها تلك الحياة التي توزعت بين الشغف بالعمارة، والتضحيات التي تقدمها فتاة في محيط اجتماعي غير متجاوب، من أجل بلوغ غايتها وهي تستحضر جماليات الأمكنة، التي تمر بها، والتي هيمنت عليها ظروف الحرب وشروطها القاسية، حين تضطرها إلى تغيير سكنها عدّة مرات هرباً من وحشية القصف المدفعي، الذي طال بيتهم البصري، وقتل شجرة البمبر وتسبب للكاتبة بشظية في الكتف، بقيت تحملها زمناً طويلاً كذكرى من أيام العناد. لدي رغبة كبيرة في سرد الكثير من الأحداث، التي انطوى عليها هذا الكتاب ، غير إنني أتردد بسبب من رغبة مضادة، تمنعني من عدم حرمان القارئ من متابعة هذه الأحداث في سياقها الجميل والمبتكر. فشجرة البمبر ليست سيرة شخصية تتعاقب فيها السنوات فحسب. وإنما هي قطعة جمالية كتبت بأسلوب رشيق ينم عن مقدرة أدبية، حتى لأنني لا أستطيع أن أميز المعمارية فاتن عن فاتن الكاتبة بنفسها السردي الآخاذ. وهي تتحدث عن تجربتها لتقدم لنا قصة نجاح إضافية عبر هذه الواقعة الأدبية. فهي إذ تشاركنا مسيرتها الإبداعية المكللة بالكفاح، تقدم درساً في الصلابة والبساطة والصدق مع الذات. وتبهرنا باللغة المنسابة والأسلوب المميز الذي يجعل من الواقع خيالاً لذيذاً وشاقاً في آن. شجرة البمبر، بصفحاته القليلة والمصورة، هو في واقع الأمر، وثيقة مهمة ردمت الفجوة بين رعيل رواد العمارة العراقية والأجيال اللاحقة عليهم. وبينت لنا المآلات المؤسفة، التي وصلتها واحدة من أهم تجارب العمارة في المنطقة.   من جانب آخر، تقدم لنا فاتن الصراف درساً إضافياً من دروس تحسس المكان والانتباه إلى المحيط الذي نعيش فيه. وإذا كانت حنا اردنت تقول: (إن الحضارة هي فن الانتباه) فإن فاتن الصراف تعلمنا شيئاً عن هذا الفن عبر رقابة بصرية حادة للفراغ من حولها، والذي حورته ذهنية الإنسان الهندسية لتأثيثه والعيش بداخله. كم هو رائع أن يأتيك الأدب من العمارة، أو تأتيك العمارة عبر كتاب أدبي. ليمشي الجمال إلى جانب الجمال وتعود شجرة البمبر التي اقتلعتها قذيفة طائشة إلى الحياة شاخصة أمامنا. حلمت فاتن الصراف منذ طفولتها بالعمل على تصميم أحلام الآخرين. ونجحت في تقديم منجز جمالي يحق لها أن تفخر به. كما برعت في كتابة حلمها هذا عبر سرد مشوّق. تأخذك من ملاعب الطفولة إلى شارع الشانزليزيه، ومن ميناء المعقل إلى دبي. وقبل كل ذلك، تجلس إلى جانبها لترتشف معها أول فنجان قهوة في شرفة غريبة. تطل على جبل عمان، لتدرك معها إنك في المكان الخطأ.  (لم يعد للتنورة والكعب العالي مكان في خزانتي، وبدأت حينها علاقة حميمة بيني وبين الجينز والخوذة، كانت متعة حقيقية أن أرى المبنى وهو يكتمل أمامي بكل مراحله). كانت رحلتي مع (شجرة البمبر) متعة حقيقية وأن أرى مبنى السيرة المهنية يكتمل أمامي بكل مراحله. منذ سلم الطفولة بدرجاته الخمس التي يتحداها الماء، مروراً بمبنى جامعة بغداد، الذي صمّمه فالتر غروبيوس أحد عبقريات العمارة العالمية، حتى آخر جملة في هذا الكتاب النادر.بعض الكتب تشبهنا في حميميتها وتكاد تكون نحن.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بورخيس،هايزنبرغ وإيمانويل كانت

نص ونقد.. العبور والانغلاق: قراءة في قصيدة للشاعر زعيم نصّار

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

مقالات ذات صلة

يحيى البطاط: الشعر والرسم طريقان لمعرفة العالم، أو لتسكين الذات
عام

يحيى البطاط: الشعر والرسم طريقان لمعرفة العالم، أو لتسكين الذات

حاوره علاء المفرجي الشاعر والرسام العراقي، يحيى البطاط خريج جامعة البصرة تخصص رياضيات، حائز على جائزة الصحافة العربية عام 2010، يقيم منذ العام 1995 في الإمارات العربية المتحدة، وأحد مؤسسي مجلة دبي الثقافية، ومدير...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram