في اللحظات الأولى لانهيار نظام البعث عام ٢٠٠٣، عرضت شاشات التلفزة العربية والعالمية لقطات مؤثرة لجموع عراقية تقف أمام بيوتها وفِي الشوارع وهي تتابع الأحداث المتسارعة لتصفية جيوب النظام وملاحقة أزلامه. كانت الفرحة بادية على الوجوه، تعكس أملاً واستبشاراً بمولد عراقٍ جديد مختلف، يتجاوز كل الماضي الهجين، الخليط بفضلات الدكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية المتوارثة.
لم يكن العراق المُرتجى البادية قسماتُه على ملامح العراقيين يومذاك على علاقة بما انتهى الوضع إليه، من انبعاث نظامٍ طائفي مقيتٍ وتكريس مجتمعٍ مكوناتي منقسمٍ، وتشطير البلاد إلى كانتوناتٍ مذهبية وجهوية ودينية، وإعادة بعث العشائرية والولاءات المتخلفة كـ" حواضن " على أساس الهويات الفرعية .
وقد تبيّن لاحقاً أنّ تلك الاصطفافات لم تكن عفوية، بل جرى التمهيد لها وإشاعتها في الوعي العام طوال السنوات التي مهدت للتغيير بوسيلة الحرب والاحتلال بديلاً عن تمكين المعارضة الوطنية من إطاحة النظام وإقامة البديل الوطني. وتتالت قرارات وتشريعات وتدابير الحاكم المدني بريمر لتؤسس الدولة الجديدة تتويجاً للمقدمات السياسية ووسائل التغيير التي أطفأت الأمل بكشف المستور في عباءة "التحرير" المزعوم واعتباره "احتلالاً"، وفقاً لقرار مجلس الأمن.
وعلى امتداد السنوات اللاحقة، ومنذ القرارات الأولى التأسيسية للحاكم المدني الأميركي وما فرضه من تشكيلات عراقية وقرارات حلٍّ واجتثاثٍ، وقواعد لبنية الدولة وسلطاتها الثلاث، تمّ إرساء قواعد لعراقٍ لا يتماثل مع تطلعات العراقيين، ليأتي الدستور المُحمَّل بـ "فيروسات" موته السريري، ويُجهز على التمنيات المأسورة لهم.
ولن يكتمل التصور حول "النوايا المبيّتة"، وما يُقال عن جهالة بريمر ومعاونيه بالمجتمع التعددي العراقي، وتقاليده وتراثه الوطني، وتواطؤ قوى العملية السياسية، كلٍّ من منطلق مصالحه الفئوية الضيقة، إذ جرى التجاوز على حقيقة أنَّ فضلات وخرائب البعث ونظامه شكلت المادة الأولية للبنى التحتية وهياكل شِبه الدولة التي لم تكتمل حتى الآن، وهي حقيقة تؤكدها بوضوح البيئة السياسية والفكرية السائدة والمقررة للعملية السياسية وما أفرزته وتفرزه من نهجٍ وسياساتٍ وشعاراتٍ، وما تشيعه من قيمٍ وأفكارٍ وتجلياتٍ رثّة في المجتمع.
وكان جليّاً منذ البداية، لمن اختبرته التجربة واتَّقدتْ ذاكرته برصيدها، أنّ ما اعتُمد من أدوات وبُنىً "للدولة المزعومة"، وما جرى تركيبه من عملية سياسية أُتخمت أطرافها المقررة بميراث النظام الساقط من جمهور، وكفاءات وتقاليد وخبرة استبداد موزعة بعدالة في ما بينها وفقاً للمذهب والطائفة والأعراق، لن تفرز غير نظام شِبه استبدادي، طائفي مذهبي موغل بقيم ونزعات التقسيم والفصل المذهبي والديني تنخر في جسد المجتمع، وتُصدّع البنى المفككة للدولة وتؤدي إلى تآكلها ..!
إنّ عقداً ونصفاً من عمر العراق الجديد، قد مضى ولم تكتمل بعدُ هياكل الدولة. وما بُني منها من هياكل " ديمقراطية" تتهاوى تحت معاول الأحزاب والكتل الطائفية المتصاهرة مع بيروقراطية الدولة ورموز الفساد ومافيات الجريمة المنظمة. ومن المستبعد استكمال بناء الدولة أوإعادة هياكلها المنخورة، وعثّ هؤلاء جميعاً يعتاش على فسادها . وكلّ ما فات وماهو قائم وما قد يأتي في نفس هذا المجرى الملوّث، لا يعكس تطلعات العراقيين المنزّهين عن لوثة الطوائف وأدرانها، ولا يُجسِّد نضالاتهم، أو يعكس أهدافهم ، وفِي مقدمتها الحفاظ على عراق ديمقراطي مستقل ومُحرَّر من النفوذ والهيمنة والإملاءات الأجنبية، قاعدته ومحور تطوره وتقدمه ومستقبله ولبناته الأساسية، المواطنة الحرّة غير المقيّدة .
فهل قادة الطوائف ونظام حكمهم ودستورهم وفساد ذمّتهم، يُشكِّل ضمانة لوحدة العراق وتطوّره الوطني ..؟!
مًنْ لا يريد عراقاً ديمقراطيّاً مدنيّاً ودولة قانون ومواطَنة حُرَّة؟
[post-views]
نشر في: 19 سبتمبر, 2017: 06:47 م