على مدى كامل المرحلة التاريخية التي شهدت صعود الحركة القومية الكردية، ظلت هذه الحركة رافداً متدفقاً وفعالاً للحركة الوطنية العراقية، وحليفاً مخلصاً للقوى الوطنية والديمقراطية ، تتأثر بشعاراتها وتؤثر في مسيرتها، وحافظت على الترابط الوثيق بين أهدافها وما تعكسه من نهجٍ وسياساتٍ، وما تناضل في سبيله الجماهير العراقية وقواها الوطنية والتقدمية العراقية، من دون أن تتخلى في كل مراحلها عن شعار الديمقراطية للعراق كمضمون يجسد نضالها القومي ويعبر عنه.
ولم تتخلَّ الجماهير الشعبية والقوى الوطنية والتقدمية من جانبها عن تبنّي المطامح القومية الكردية والدفاع عن حقها في تقرير المصير. والذاكرة العراقية تختزن مختلف أوجه التضامن والكفاح المشترك في سبيل الديمقراطية للعراق والحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي، التي شهدتها بغداد وسائر المحافظات العراقية . وتشهد على ذلك التظاهرات العاصفة التي طالبت بالسلم في كردستان، وكذلك الأوجه الأخرى من أساليب الكفاح الجماهيرية المندِّدة بالحروب العدوانية الشوفينية التي شنتها الأنظمة المتعاقبة ضد الشعب الكردي واستخدمت فيها كل ما في ترسانتها من الأسلحة من دون استثناء أسلحة الإبادة الكيمياوية والتطهير العرقي التي تمثلت بسياسة " التبعيث والتعريب " التي غيّر صدام حسين بمفعولها ديمغرافية المحافظات، وزرع من خلالها بذور فتنة لاحقة، وهي ذات السياسة التي يدافع عنها البعض من خلفاء النظام السابق بتلويناتهم واصطفافاتهم المختلفة ، وبينهم وجوه تفسخت ملامحها لكثرة ما شابها من تجاعيد أقنعة الخديعة.
لكنَّ هذا النهج التضامني من جانب الحركة الكردية مع حلفائها لم يتواصل في ظل " العراق الجديد " بل تعرّض إلى انتكاسة وتراجع ، لصالح تحالفاتٍ بُنيت على أوهام لم تتحصّن حتى بتحفظٍ يستوجبه أيّ تحالفٍ سياسي، وأدارت " ظهر المجن" لحلفاء الأمس ، وتعاملت قياداتها المتنفذة في بغداد باستخفاف مع الأوساط الوطنية والتقدمية ، الداعية لبناء عراقٍ ديمقراطي مدني عابر للأديان والمذاهب والمِلل. عراق ضامن لكل عراقية وعراقي، كافل لحقوق جميع المكونات على أساس المواطنة ، وليس على أساس تكريس نظامٍ ديني مذهبي يجري التوافق والتحاصص فيه على نهب المال العام وتمزيق النسيج الاجتماعي وتفكيك قيم وآليات الوحدة الوطنية والتمسك بالعراق على أساسٍ طوعي وإرادة حرّة .
وقد عمل الحلفاء الجدد الذين اشتدت قبضتهم على السلطة، بنهجٍ مثابرٍ وثابت لفك كل تحالفٍ يعيق تطلعاتهم للانفراد بالحكم وتوجهاتهم بفرض نظام الأُبوّة الدينية المذهبية ، ولم تردعهم مخاطر تعريض العراق للتشظي ، بعد أن نجحوا في تمزيق المجتمع وتشتيت مكوناته وإحياء الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية. وأوصلوا البلاد إلى حافة الحرب الأهلية ، ثم مكّنوا داعش من الاستيلاء على ثلث مساحة العراق ، ليس بمعزلٍ عن نهجٍ إقصائي ،وبكل ما توفر لهم من أساليب وإمكانات متاحة في الدولة .
لكنّ الدبلوماسية الكردستانية المتمثلة بممثلي الإقليم في البرلمان العراقي ، ظلت في حالة خدرها، وغيّها، حتى الآن حيث تتصاعد حملة الاستباحة التي يقوم بها زملاؤهم في البرلمان، فلا يلتفتون وهم يرفعون أيديهم بالموافقة على المشاريع والقرارات التي تمس المصالح المباشرة للعراقيين بجميع تجلياتهم وتنعكس على مصالح كردستانهم ومستقبل الإقليم ، فيرفعون الأيدي ، وربما لم يطّلع بعضهم على القوانين والقرارات المطروحة ، لإمرار قوانين جائرة تتعلق بالحريات وبالنزاهة وبالانتخابات ، قانوناً ومفوضية" وقوانين وقرارات تُكرس دولة الطوائف والمذاهب والنهب العام . وقد يتوهم بعضهم أنّ ذلك "شأنٌ عراقيٌ" ، ولهم ومايريدون !
إنها ليست نقصاً في الكفاءة والأهلية والوعي السياسي، بل هي امتداد لنهجٍ ظل يستخف بتأثير ما يجري في بغداد على كردستان، وعدم إدراك لقوانين الانعكاس السياسي، والأواني المستطرقة التي تُدرَّس في المدارس المتوسطة في كردستان أيضاً ، وليس أكثر من ذلك !
والأداء البرلماني لممثلي الإقليم ، يمتدّ إلى الإقليم نفسه من خلال معايير الاختيار ، ويكفي أن نعرف أنّ اختيار البعض لا يُراعى فيه شرط المعرفة باللغة العربية ، على أساس أنّ الكردية هي اللغة الثانية للعراق ، ناهيك عن شرط الاطّلاع، وبالحدود الدنيا، على الخارطة السياسية العراقية ومكوناتها ومفرداتها واتجاهاتها .
أثناء حرب حزيران عام ١٩٦٧ أعلن الزعيم مصطفى البارزاني من طرفٍ واحد إيقاف القتال مع القوات العراقية، وفِي مرة أخرى عنّف نجله الرئيس مسعود بارزاني مطالباً إيّاه بتوجيه الجميع نحو تحريم كل عمليات اغتيال أو صدام أوتخريب في المدن العراقية خارج مناطق القتال، وظل هذا النهج ثابتاً لا يتغير حتى في مراحل اشتداد القتال والأنفال واستخدام الكيمياوي.
وفِي واقعة أخرى لا تُمحى من ذاكرة العراقيين، الذين يحرصون كل الحرص على العراق وشعبه والأُخوّة العربية الكردية ،القرار التاريخي المفعم بروح التآخي والقيم الإنسانية الذي اتخذته الجبهة الكردستانية عام ١٩٩١ إثر الانتفاضة ، باحتضان آلاف العسكريين الذين سلّموا أنفسهم للبيشمركة على جبهات القتال والتعامل معهم كمواطنين لا كأسرى، وترك الخيار لهم في البقاء في وطنهم أو العودة إلى بغداد .
ليس على كرد البرلمان العراقي والقيادة الكردستانية، والحال هذه، التساؤل حول عزلتهم عن العراقيين المناصرين للشعب الكردي، وما يدفع إلى الاستغراب من السياسة التي كانت وراء موقفهم هذا.