اشتركت الفنانة الإسبانية مونيك باستيانس بمشروع LoiLoi في الدورة الخامسة عشرة لمعرض "فن على الأرض" الذي يُقام سنوياً ولمدة شهر واحد في مدينة سانتا لوسيا دي أوكون، التابعة لمقاطعة لا ريوخا في شمالي إسبانيا. وقد تضمّنت مشاركتها الفنية 12 نوعاً من
اشتركت الفنانة الإسبانية مونيك باستيانس بمشروع LoiLoi في الدورة الخامسة عشرة لمعرض "فن على الأرض" الذي يُقام سنوياً ولمدة شهر واحد في مدينة سانتا لوسيا دي أوكون، التابعة لمقاطعة لا ريوخا في شمالي إسبانيا. وقد تضمّنت مشاركتها الفنية 12 نوعاً من العناكب منفّذة بأربع مواد، وهي الألياف الزجاجية، والورق المقوّى، والجصّ والحديد، وبارتفاعات تتراوح بين 2.5 م إلى 3.5 م، والمشروع برمّته مُهدى إلى روح شقيقها الراحل جان- ﭘول الذي كان يخاف جداً من العناكب.
يثير هذا المعرض أسئلة عديدة لدى المتلقّي بدءاً من عنوانه الغريب الذي يُشبه تنويمة شرقية، مروراً بهذه الكائنات الصغيرة التي صخّمتها الفنانة باستيانس وجعلتها أطول من الإنسان العادي الذي يجب أن يرفع رأسه ليتأمل حركة هذه الكائنات الطريفة التي تمّ استدراجها إلى بيئة مفتوحة، حيث يندمجان معاً، ويعززان بعضهما بعضاً، وانتهاءً بثيمة العمل التي تُقدّمُها باستيانس كخطابٍ بصري ممتع لا يخلو من التأمل والإثارة والمرح.
تبدأ طرافة المعرض من عنوانه الموسيقي الأقرب إلى "شيفرة" لغوية غامضة ينبغي تفكيكها وإدراك معناها الحقيقي أو المجازي. ولكي لا نشتطّ في تأويل هذا العنوان الجذّاب، سألنا باستيانس عن معناه، فأجابت قائلة: "عندما كنّا صغاراً استعملنا أنا وإخوتي مصطلح LoiLoi وهي صياغة لغوية مُختَرَعة تعني شيئاً مثل السعادة والمُتعة والمرَح. كان أخي جان- ﭘول، الذي تُوفي قبل ثلاث سنوات، إنساناً فكِهاً ومرحاً جداً، وبينما هو يتحدث فلتت منه كلمة LoiLoi بشكلٍ مفاجئ، وكان يعني المرح والدُعابة والبهجة، فأصبحنا، نحن الأشقاء الثلاثة فقط في هذا العالم، قادرين على استعمال هذا المصطلح، وإدراك معناه العميق والطريف والمدهش في آنٍ معاً".
إنَّ مُشاهدة أي مشروع أو معرض للفنانة مونيك باستيانس، يحتاج أول الأمر إلى التقاط الثيمة وفهمها، فهي، قبل كل شيء، فنانة بيئة بامتياز، وتجد ضالتها في الطبيعة المفتوحة، فلا غرابة أن تنجز منذ عام 1994 وحتى الآن 31 مُداخلة فنية تُطلق عليها باستيانس تسمية Interventions وهي مشاريع إبداعية تُضفي على الطبيعة جمالاً ساحراً لا تُخطئه العين الخبيرة المُرهَفة، ويكفي أن نشير إلى أعمال مثل "قنديل البحر"، "وداعاً للحزن"، "السماء الحلوة، "البيت السابع"، "الحواس" و "الطحالب الزرقاء" لنكتشف حجم الجمال والرَقّة والشفافيّة التي تضفيها هذه الفنانة المُبدعة على الغابات والأنهار والجبال والمزارع المفتوحة على مدّ البصر.
لعلَّ الثيمة الرئيسة التي تُهيمن على أعمال هذا المعرض هي كيفية النظر إلى العناكب، هذه الكائنات الصغيرة التي لا يتجاوز حجمها 7 مليمترات، والتعامل معها. صحيح أنها تُخيف الأطفال، وتُفزِع غالبية النساء، وربما بعض الرجال أيضاً، لكن باستيانس قدّمتها لنا بطريقة فكاهية مُبهِجة، فهذه الكائنات "المُتعملقة" بدأت ترقص للمتلقين وكأنّ لسان حالها يقول: "لماذا تخافون من كائن هزْلي راقص لا يبتغي أكثر من تسليتكم، ورسم الابتسامة على شفاهكم؟."
على الرغم من ندرة الأنواع السامة لهذه العناكب، كالأرملة السوداء، إلاّ أنها بالمجمل كائنات مقززة لا يحبّذ الإنسان رؤيتها. وربما يكون هذا النوع من المعارض الأرضية مُحفّزاً للقرّاء والمُشاهدين على إعادة اكتشاف هذه الكائنات الصغيرة، والتعرّف على أنواعها الأخرى الصديقة للإنسان، وأسرارها، وطرائق عيشها. إذن، إن هدف المعرض ليس بصرياً أو جمالياً فقط، وإنما هناك أهداف ثقافية تحضّنا على كسب المعرفة، وتوسيع المدارك، وإعادة النظر في تعاملنا مع الكائنات الصغيرة التي يعتبرها البعض مُهمَلة، ومَنسيّة، ولا تستحق عناء البحث والقراءة والاستقصاء.
بالتأكيد لم تختر باستيانس أنواعاً من العناكب السامة، وإنما انتقت الـ Opiliones وهي رتبة من الحيوانات العنكبوتية التي تشتهر باسم "الرُتيلاء" لكي تسرد لنا قصة ما قد تُفيدنا أو تُسلّينا، ذلك لأن هذا النوع تحديداً يُطلق عليه في بعض الأماكن بـ "الحُصّاد" لأنها تتجمع بأعداد كبيرة في موسم الحصاد، أو "العناكب الراقصة" لأنها تهتز وتتحرك للأمام والخلف، والأعلى والأسفل كوسيلة دفاعية تضلل المهاجم وتحاول التخلّص منه في الوقت ذاته.
تقترح الفنانة على المتلقي أن يتوقف أمام هذه الكائنات المتعملقة، أو يستلقي على الأرض، ويغمض عينيه قليلاً ثم يصغي إلى الأصوات التي تُحدثها الريح في أجساد هذه العناكب المهتزة التي تُوحي بالرقص أو بالدفاع عن النفس أو بتجمعات الحَصَدَة في فصل الخريف. وبهذا ينضاف فعل التأمل إلى المتعة البصَرَية، والمعرفة، والنَفَس الفكاهي الذي يعمّق في كثيرٍ من الأحيان المناحي الجدية عند المبدع ومتلقيه في آنٍ معاً.
ما تدعو إليه باستيانس أقرب إلى الرياضة الروحية أو التنويم المغناطيسي لبعض الحواس واستنفار حاسة السمع فقط، أو الشمّ في بعض الأحيان، لترى تأثيرها على المُشاهِد الذي انتشلته من صخب المدينة وضجيجها إلى هدوء الطبيعة وسكينتها المفرطة التي لا تُحطِّمها الأصوات الصناعية المُزعجة في معظم الأحيان.
تسعى باستيانس دائماً إلى خلق حوار حميمي بين مشاريعها أو أعمالها الفنية وبين الطبيعة التي تحتضن هذه المداخلات الإبداعية التي تنطوي على لمسات جمالية آسرة تُسهم في تغيير البيئة المكانية التي تستهدفها ذائقة هذه الفنانة المتفردة التي أعادت صياغة العديد من المواقع الأثرية، والأمكنة الطبيعية المفتوحة ليس في المدن والبلدات الإسبانية فحسب، وإنما في هولندا وإيطاليا وفرنسا وسويسرا والنمسا واليابان، وسوف يرتفع رصيدها بالتأكيد في السنوات المقبلة، لأن ذاكرة باستيانس البصرية توحي للمتلقي بأنها لا تنحت أفكارها من حجر، وإنما تغرف ثيماتها من بحر.