يرى كل دين هو شبكات تخيلية والرموز أكثـرها حضوراً
منذ أن تعرفت عليه قبل نصف قرن وحواراتنا لم تتوقف، ساعدني على الأمساك بجمرة المعرفة والنبش في فنون الأدب الشعبي، ودلني على سبل ومسالك الوصول الى الضفاف والفضاءات الآمنة ومحبّة الجمال ونبذ الكر
يرى كل دين هو شبكات تخيلية والرموز أكثـرها حضوراً
منذ أن تعرفت عليه قبل نصف قرن وحواراتنا لم تتوقف، ساعدني على الأمساك بجمرة المعرفة والنبش في فنون الأدب الشعبي، ودلني على سبل ومسالك الوصول الى الضفاف والفضاءات الآمنة ومحبّة الجمال ونبذ الكراهية، متدفق، حيوي، مثقف يشار إليه بالثناء، لكنه بعد أن غادر شغفه الأول في كتابة القصة والرواية وأنتج فيهما مجموعتين قصصيتين وثلاث روايات، جذبته الى بيتها أساطير وديانات الشرق، فخاض في متونها وقرأ نصوصها بوعي مشاكس لم يسبقه في ذلك أحد من أقرانه، وكانت له معها اكتشافات مثيرة أذهلت حتى المختصين في دراستها أكاديمياً...
ناجح المعموري (هكذا بلا ألقاب)، قامة كبيرة في ثقافتنا العراقية والعربية، شغوف بكل ما انتجته حضارة الشرق، قراءة وبحثاً ونقداً، وفي اشتغالاته هذه أصدر اكثر من ثلاثين كتاباً شغلت القراءة المنتجة وأثارت العديد من ردود الأفعال، أعتز به وبجهوده واختلف معه احياناً، ولكن لا خلافات ولا تقاطعات في الرؤية لمنهجه البحثي وحفرياته المعرفية، وهذا الحوار حصيلة جلسات يومية معمّقة، أردت من خلاله تقديم المعموري لقرّائه، مفكراً استثنائياً وباحثاً جاداً في مجال تخصصه النادر، لعلّ هذه الأوراق تكشف عن ثراء معرفي ورؤية (جديدة)، لهذه الأساطير ولديانات شرقنا وتابواته التي شابها الكثير من (الاجتهادات) والإضافات... ولنا بعد كل هذا أن نبتهج بناجح المعموري وبما حققه من إنجازات كبيرة في مشغله الجدير بالتأمل والانتباه،. ومعكم نمضي في مفردات هذا الحوار المنتج... لعلكم تجدون في سطوره ما يضيف الى معارفكم غنىً واجابات شافية على ما يعتمل في أذهانكم من أسئلة مقنعة..
* هل تتفق مع الدراسات المعاصرة التي أكدت على أن الأسطورة نصٌ معقدٌ ومركب ؟
- يعتقد الكثير من الأدباء والفنانين بسهولة التعامل مع الأسطورة، وهذا خطأ كبير، مثلما هو وهم، وكثيراً ما تعرفت على الأسماء وقرأت لها لكنها لم تكن دقيقة، لأنها تعاملت مع الأسطورة بوصفها نصاً، وكثيراً ما تمثل القراءات الى دفع الأسطورة للواقع. هذه ممكنة، لكنها ليست أسطورة القراءة الحقيقية للأسطورة تستدعي معرفة وخبرة بالابستيمات
المكونة لها، لأن ذلك هو المانح للفرصة التي نريد، كي نتسلل لأعماق الأسطورة، دائماً هي مخفية، مضببة، معقدة، وبعض الأساطير تحتاج وقتاً خيالياً. وعلى سبيل المثال استغرقت دراستي لأسطورة الفلاح شوكا ليتودا، أربع سنوات على الرغم من قصرها الذي واجهني هو غياب انستيم لحظة زعزعة المقدس وما هي العوامل التي دفعت لذلك كذلك
تعقدت المنافذ عليّ وانا افحص أسطورة أنانا جلجامش وشجرة الخالوب، فتركت الموضوع لفترة طويلة، لكن القراءة قادتني لمفتاح الابستيم الخاص الإلهة ليليث وعلاقتها بالملك سليمان وتعرفي على هذا الابستيم بالصدفة هو الذي فتح لي علاقة تسحب الأسطورة نحو المندائية . كل هذا هو الذي حدد الاطار المتكامل لقيادة الأسطورة وتعميق صداقتي معها. دعني أؤكد لك الآن الاشتغال في فضاء النقد الأسطوري ورطة كبرى تستدعي التعرف على ميثولوجيات الشرق ودياناته .
وأجد ضرورة التذكير بمقولة القديس اوغسطين وقولته الشهيرة عندما قال في حوارية له: أنا اعرف الأسطورة ولكن ارجو أن لا تسألين ليونة
الفلسفة في هذا القول وتقيدها كما هي، أي انه جوهرها الذي فوضها بالبقاء والحضور الأزلي . ما قاله أوغسطين كافٍ للتعريف بالتعقيدات فيها واتساع الفضاء الرمزي الدال عليها، والمعبر عن تنوعات التكون النصي الذي لا يتماثل مع غيره من النصوص الأدبية والثقافية حتى التي تتمظهر عن عناصر استعارها الشعر منها.
أهمية الأسطورة، ليست بالشبكة الرمزية والآثارية بل أيضاً بالطقوس والعقائد. والتي يظهر البعض بأن الطقوس تعويضات للمهمشين، بل هي ـ مثلما أرى انا ـ تعطيل لها وتكريس للرضا والقبول بالطرد لهم نحو الطرفية والتهميش. كما بودي التنبيه الى الخطورة الكامنة في الأسطورة والأمل أيضاً، حيث هي ما تشير الى افق غائي إذا أخصصناها للتأويل الشكلي كما قال بول ريكور . أما خطورتها فتكمن بتوليدات العنف ومنحه صفة القداسة. ويقودنا هذا للمرور قليلاً نحو الدين الذي استدعى العنف منذ لحظة الملاحم الكبرى الخاصة بالتكوين والتي تفتح مجالاً للخلق والكلمة وفيها وعبرهما نتبدّى العنف الذي استولده العنف في الطبيعة
وظواهرها وكل عنف في الطبيعة صيفاً وشتاءً استحضر الحاجة لوجود مقدس، رمزيته العنفية وكل مقدس ـ الإله ـ إذا لم يستطع تفعيل قداسته بواسطة العنف ، ليتعطل ويندثر مثل العديد من الآلهة التي عرفتها ديانات الشرق .
ولابد من التذكير بأن منظوم الآلهة في العراق القديم لم يكن يعرف كله العنف . فالإله انكي وسلالته وريثة العقل والحكمة والتروي، باستثناء الإله ودفع الإله القوي لإمبراطورية بابل. فرضت عليه تحولات النظام الديني الكلّي أن يدخل بصراع دموي مع آلهة العماء تيامت.
العنف أهم خصائص الآلهة الذكرية، واعتقد بأن سبب ذلك الطبيعة الذكورية وسيادتها وحضورها السماوي حتى في المرحلة التي تسيدت فيها الآلهة المؤنثة وحضور خطاب الأم الكبرى . وأول ظاهرة عرفتها الحضارة العراقية في مجال العنف كانت عبر الطقوس ما بعد السحرية التي تمظهرت عن تفاصيل عنفية مادية ورمزية . لكن علينا أن لا نوحّد بين الآلهة الذكرية كلياً بنوعية وحجم العنف . فالوظيفة الثقافية / الدينية، هي التي ترسم إطار العنف الممارس .
* وهل هناك شواهد أدبية على ذلك؟
- سؤال مهم وجوهري، انجزت كتاباً مهماً سأدفع به قريباً لدار المدى عن العنف في الأدب العراقي القديم وبعنوان "العنف والمقدس" درست فيه نصوص البكاء والندب فوجدت الإله انليل مسؤول السلطة التنفيذية جبارة ومرعبة، يزاول تدميراً كلياً للمدن والمعابد، وتحول من معبود الى قاتل، وهذا أمر مرعب والعودة لنصوص الرثاء العراقي القديم تدميراً لمدن تمثل مراكز حضارية مثل بابل دمرها الاله ايرا / الشيطان واور ونفر ولكش ....وسأحاول الاستعانة بمقطع من نص موسع جداً عن دمار اور في سلالتها الثالثة وانهيار أعظم ملك عرفه العراق. إنه شولكي الذي يعزف على الآلات ويكتب الشعر ويمارس طقس الزواج المقدس ويزاول الرياضة . انهيار اور أخطر ما عرفه العراق عندما أضاع العراقيون هذه المدينة العظيمة .
ويكشف هذه المقطع قساوة آنو وصمت انليل .
الى الاله آنو اسكب ماء عيني، أنا يقيناً افعل / وأنا الاله انليل، أنا نفسي تضرعت / لا تدع مدينتي تدمر، يقيناً أنا قلت هذا / يقيناً، الاله آنو لا يغير كلمته / الدمار التام لمدينتي امروا به / وسيفنى أهلها وفق المصير الذي قرر الاله انليل دعا العاصفة، الشعب يئن / انها تهاجم الأرض وتلهمهما / الريح المؤذية بالدموع لم تناشد / العاصفة المدمرة تجعل الارض ترتجف وتهتز / العاصفة المدمرة لكل شيء تفعل الشر اضفى عنف المقدس حزناً ومرارة ونحيباً مستمراً على العراق وظاهرة الحزن والندب حتى في أفراحنا موروثنا من عتبات الحضارة، لأن اعتقد بأن حضارة اخرى تماثلت مثل ما كان حاضراً في كوارث ومآسٍ ومن المفيد التذكير بأسطورة، الطوفان في ملحمة جلجامش وكذلك اسطورة شوكا ليتودا وما فعلته انانا /عشتار لكل المدن السومرية ... انها ظواهر هائلة المآسي والدمار، وعلينا أن لا نستغرب ما هو حاصل ... انه بحاجة لقراءة ثقافية انثربولوجية .
* ما هو السر الكامن في طاقة الطقوس وقدرتها على الجذب ؟
- سؤال جوهري ، الأمر لا يخفي سراً ... وانما متراكمات التداول تستمر الآف السنوات.... وعلى سبيل المثال طقوسنا العزائية الحاضرة هي موروثاتنا للندب على الغياب الرمزي، وأيضاً الاله الشاب في كل الشرق هذا نظام أكثر تعقيداً من انظمة الالهة الأخرى والطقوس لا تمنح المتعبد تعويضاً، وإنما جعله ماثلاً بالذي هو فيه ولا تقترح له حلاً، بل تجعل أيامه نوعاً من قبول العذاب الرمزي أو المادي . الطقوس في كثرتها وشيوع طابعها العنفي وايذاء الذات وجلد النفس واهانة الكائن المتخندق باعتبارها قوى حماية للسلطة الملوحة بالايديولوجي . الطقوس العنيفة تربي الكائن وتؤهله للتعايش مع القساوة والقبول بكل المشاهد الجريحة في الحياة . ومثل هذا الكائن المتباهي بمعبوده وما ينتجه من عنف ، يعيش رمزياً خارج كينونته ومنفياً عن الجماعة وهذا اخطر ما عرفته الديانات القديمة في لحظات الخطر والتهديد ، حيث يستدعي المقدس كل امكاناته الثقافية والدينية منذ لحظته الأولى التي اختار فيها الانسان البدائي قوة رمزية تصد عنه مخاطر ما يرى يومياً في كل الفصول .
* الإجابة واضحة وعميقة، لكني أريد معرفة العلاقة بين الطقوس والدنيوي؟
- الطقوس حاضرة حتى بعد انتهاء زمنها، لا بل تظل ضاغطة عبر تمظهراتها الهائلة من خلال العقائد والشعائر السحرية والخالد من سردياتها وحصراً سرديات كبرى عن البطل الغائب ، أو القتيل . ودعني اقول لك بأني أول باحث عربي تعامل مع الطقوس باعتبارها سرديات متحركة، غير قابلة بالعطل، بل تزدحم في زمن الازمات المختلفة بمظاهر عنف كبرى، وقد كتبت عن سردية الطقس في المدى، وفي أحد كتبي وكلما اتسعت الطقوس وتعمق تداولها ، كلما هيمن على الحياة المكان المقدس واعني به في الديانات الجزيرية .
وقال روجيه كابوا في "الانسان والمقدس": كان القديس أوغسطن اذا وقف في حضرة الالوهة يستشعر رعشة خوف في اوصاله ويجتاحه توق عارم الى الحب، وقد عبّر عن ذلك بقوله "إني ارتعش هلعاً واضطرم حبّاً " لكنه ما لبث أن أثنى معرض أن جزعه هذا ناجم عن وعيه الفارق المطلق الذي يفصل كيانه عن كيان المقدس، في حين أن ولهه متأت من شعوره بتماثلهما العميق ، ولا يزال علم اللاهوت يحتفظ بهذا الوجه المزدوج للالوهة بتبينه فيها عنصران: مروّع وآسر ـ على حد تعبير رودولف اوتو : مخيف ومنبهر . مع كل هذا لا نستطيع تجاهل مقولة نيتشه عن ثنائية الديونسسية والايولونية هذا هو التقسيم الفلسفي لمنظومة الديانات الشرقية والتي اشرت بعمق بالاغريقية.
والبعض من دارسي الديانات الشرقية القديمة يتجاهل ثنائية الحسي والمعرفي وهما معروفان في الحضارة السومرية والاكدية والكنعانية والمصرية . لأن الديانات لا تقوى بدون ذلك، حيث يمثل الحسي / الذي هو مجال حيوي وجوهري في سومر بلغ الحس حدوده القصوى، وأعتقد بأنه أهم ما أبدعته سومر كنوع ثقافي ومعرفي لتمجيد الحياة عبر الجسد، وما زلت أتمنى على المفكرين العراقيين الشباب الانتباه لهذا المجال واضاءة هذا الابستيم ، لأن سومر هي الاولى التي منحت الجسد قيمة متسامية وجعلته قادراً على اعادة انتاج الكائن وتهذيبه وتأهيله جمالياً، والدليل الاقوى هو ملحمة جلجامش والأنموذج الرفيع هو أنكيدو وعودة الى مزاولات الطقوس، أقول بأن المفكر روجيه كانوا في كتابه المهم "الانسان والمقدس" قال: ينشأ المبهر بالتوازي مع اشكال المقدس المثيرة ، أو ما يسمى الدور الديونيسي بما يميزه من نشوة واتحاد محوّل . لكن ما يجذب المخلوقات الى الالوهة أيضاً، هو ببساطة لطف هذه الاخيرة ورأفتها بمخلوقاتها وحبها إياها في حين أن المربع "العض المقدس" وقضاء الاله الذي لا يرد، قضاء اله غيور يرتعد الخاطئ امامه ويتضح مستجدياً غفرانه .
الحسي / الذي في الديانة السومرية والاكدية محدود جداً، ولم يكن مثلما عمّم روجيه كابو . الإلهة أنانا / عشتار فقط هي التي تمثل الديونسيسة مع دموزي / تموز، لكنها في حقبة الوحدة السياسية لدويلات المدن والاتحاد الامبراطوري حازت صفتها الجديدة، حيث صارت آلهة الحب والشبق والحرب ولذلك سبب مرتبط باتساع جغرافية المعارك خارج العراق ولابد من تطمينات للحاجات اللذيذة ومراقبة الجيوش ومعاقبتها .
الاله دائماً هو المراقب والمعاقب ودائماً ما تكون هذه الوظيفة قاسية / تدميرية / وانهيار لمدن كاملة مع معابدها / اماكن الالهة المقدسة . وعلينا أن نتصور قساوة هذا الاله الذي يعصف بسرة العالم / معبده ويدمره كلياً. ويتضح هذا جلياً في المجلد الثاني من ديوان الاساطير، ترجمة قاسم الشوّاف حيث مسرحية البكاء على خراب مدينة اور وبلاد سومر، حيث تم تدمير معابد كل المدن السومرية وارتفع صوت البكاء والنواح .
* أنت من المثقفين الأوائل في إشاراتك المهمة عن المخيال هل استطعت الاستفادة منه في بحوثك عن الميثولوجيا ؟
- أنا أول من ادخل كتاب جلبرت دوران في أواخر التسعينات الى العراق، ولم يكن في حينها متوفراً غير اشارات لمحمد اراكون والجابري، وبعد ذلك اكتسح الكتاب الفضاء العراقي ابتداءً من مكتبة الصديق أحمد الشيخ، والكتاب مصدر معرفي مهم جداً في الميثيولوجيا، وكان له تأثير بارز في فرنسا بعد الضجة الكبرى التي أثارها كتاب فوكو "الكلمات والاشياء" من بعد انفرد كتاب دوران بالثقافة والفكر العالمي، ومازال واستكمله كتاب كوستارياديس في تأسيس المجتمع تخيلياً، انهما من مصادري وقد زوداني بمفاتيح طوعت بها ثقافتي في الديانات، لأن مكونات كل دين عالمي، ومازال واستكمله كتاب كوبتاركدوس وتأسيس المجتمع تخيلياً، انهما من مصادري وقد زوداني بمفاتيح طوعت بها ثقافتي في الديانات، لأن مكونات كل دين هي شبكات تخيلية والرموز اكثرها حضوراً واهمية، وهذا ما اكد عليه هايدجر في كتابه اللغة والاسطورة وكاسيرر في فلسفة الاشكال الرمزية . كانت لهذه المصادر طاقة ساهمت فوكو بتفعيل اشتغالي الثقافي وقادتني نحو فضاء الفلسفة، واكتشفت من أن العيش بعيداً عن المعرفة والفلسفة مثل سباح في نهر ضحل . ولا أخفيك سراً اذا قلت لك أن أهم كتبي المتأخرة تغذت من نظام التخييل وابداعات المفكر سعيد الغانمي وقادتني هذه المصادر للمغامرة الاولى في مجال الدراسات الميثيولوجية لقراءة الهامش والمركز في أساطير الشرق . وهذا مفهوم غربي حاز قوة في قراءة سعيد عن الاستشراق، ووجدت بأن ديانات عرفت مثل هذا النظام الاقصائي ، يعني [ان العقلية الغربية لها أصول مبكرة ومنذ الاغريق في طرد الوافد أو تهميشه اذا كانت بحاجة له وقد قدمت دراسة مهمة نشرت في مجلة جدل العددين 7 و 8 : الاسطورة والواقع وسلطة الالوهة المؤنثة في الشرق ".
* للمكان سحرية واضحة تعمقها مزاولة الطقوس والعقائد ، هل الحاضر وريث الماضي ؟
- يستغرق المقدس اهتماماً جوهرياً وبالغ الحساسية ، لأنه هو السحري بالعتبات المبكرة في فجر الحضارة الإنسانية ، مثلما هو الديني الذي دائماً ما يتخذ الظواهر الموجودة في الحياة والطبيعة مثل الشمس، القمر، الرياح، البرق / الرعد / ....الخ، والإشارة لوجود اله واحد في ابتداء الحضارة أمر ضروري، وهو اله غير متماثل بين الجماعات والقبائل ، فكل منها يتخذ ما يعتقد قادراً على توفير الحماية له، ويمنحه الأمان والسلام وهكذا تعددت الإلهة وكثر عددها . وكل اله تقترحه الجماعة المعتقد به ، طقوسه الدينية غير الثابتة، بل هي متحركة باستمرار . وهكذا تتطور العلاقة مع المقدس باستمرار .
ذهب العراقي القديم نحو المقدس، وتعامل معه بتسام لا مثيل له وجعل له أهم المدن المعروفة وذات الحضور المهين . وعلى سبيل المثال، كانت بابل، مدينة الإله مردوخ ، المقدس القومي للإمبراطورية البابلية، وتمثل أيضاً سرة العالم، مثل المدن الأخرى. واعتقد بأن الإشارة التوراتية / سفر ارميا 51:7 والتي اعتمد عليها د فالح مهدي والتي تضمنت: بابل كأس ذهب بيد الرب ، تسكر كل الأرض، من خمرها شربت الشعوب ، من اجل ذلك جنت الشعوب " هذا نص مراوغ متماثلاً مع كل النصوص التوراتية المقنعة بمسكوتات غير معلن عنها بشكل صريح ولعل الإشارة لمدينة بابل ، لا تعني القداسة فقط والأهمية التي تتمتع بها لدى اليهود، وإنما هي حلمهم في الحاضر ـ آنذاك ـ حيث كانوا أسرى فيها وعاشوا حياة لائقة وكريمة وفرت لهم فضاء للعمل وامتلاك ما هو غير متوقع من الأراضي والمقاطعات ، من هنا كانت
بابل حلم اليهود الأبدي وسيظل الحنين لها كامناً ولن يخفت أو يتلاشى ، هي سرة العالم وحلم دولتهم عريض وممتد من النيل الى الفرات، لذا اعتقد بأن ملاحظة د .فالح مهدي غير دقيقة .
والنص التوراتي يخفي العديد من الأحلام السياسية والأقنعة الدينية لأنهم ـ اليهود ـ لم يجدوا ألهاً لهم مماثلاً للإله مردوخ الذي تجاوز جغرافية بابل الداخلية وامتد نحو جغرافيات خارجية منها سوريا / فلسطين / مصر .
ظهور هذه الطاقة في المكان المقدس / بابل ، لم يكن سببها وجود مردوخ إلها قومياً ، بل لأنه استطاع إخضاع كبار الإلهة السومرية والاكدية وحاز دعمهم له ، بحيث تأهل منتصراً على الإلهة تيامت . وتجسدت فيه عناصر لم يعرفها اله شاب قبله ، ومثال ذلك قاد بابل نحو مجد إمبراطوري عظيم وذهب باتجاه التغريد ، كسابقة لم تحصل من قبل . لذا حقق حضوراً متعالياً ، وكشف عن سلطته الكبرى وسعيه للتجديد والحداثة في مبادرة غير مسبوقة قبل ذلك . لذا علينا أن نسجل ريادة بابل، المدينة العظيمة المقدسة في حداثتها الجديدة . فالتغريد لم يقلص قداسة مردوخ ، ولم يؤثر في بابل / كسرة للعالم كله . واهم أشارة ذهب إليها د .فالح مهدي هي التآزر بين الدين وبابل وكلاهما معاً باتجاه الأسطورة ، لأن الدين لن يكون ولا يقوى على الاستمرار والديمومة إذا لم يكن قادراً على إنتاج أساطيره وعقائده وطقوسه وهذا ما افلح منه مردوخ ((فليست هناك عقيدة دون أسطورة . فالأساطير التي ينظر لها بسلبية في الثقافة الإسلامية قديماً وحديثاً، هي شكل من أشكال العقل، وتمثل أولى محاولات الإنسان، قبل التفلسف لتفسير الكون . ليس هذا فحسب، بل لإعطاء معنى لوجوده. فهو لم يقف مكتوف الأيدي إنما حاول أن يبحث عن سر الحياة ، ومن أين جاء الإنسان والى اين سيذهب ؟ / فالح مهدي /
الخضوع السني / الاحباط الشيعي / ص48//.