الكتابة– القراءة– المرأة
(القسم الأول)
بدءاً لابدّ لي من الاعتراف أنني عاشقة مدمنة لأدب السيرة الذاتية وكلّ مايمتّ له بصلة (مذكّرات، يوميات، سِيَر، رسائل متبادلة ،،، الخ)، وأؤمن أن هذا الصنف من الأدب يمكن أن تكون له مفاعيل ثورية في الار
الكتابة– القراءة– المرأة
(القسم الأول)
بدءاً لابدّ لي من الاعتراف أنني عاشقة مدمنة لأدب السيرة الذاتية وكلّ مايمتّ له بصلة (مذكّرات، يوميات، سِيَر، رسائل متبادلة ،،، الخ)، وأؤمن أن هذا الصنف من الأدب يمكن أن تكون له مفاعيل ثورية في الارتقاء بالذائقة الحضارية للأفراد والبلدان معاً بماينطوي عليه من جرعة الصراحة الكاشفة والبوح الملهِم الذي يضع الإصبع على الجرح بلا مواربة أو تلفيقات أو تعميات قد تتطلبها تقنيات الكتابة في الأنواع الأدبية الأخرى؛ لذا لم يعد غريباً أن أدب السيرة الذاتية قد بلغ مبلغاً عظيماً - لدى الغربيين بخاصة - وجاوز في مرتقياته تخوماً بعيدة حتى غدت بعض السير الذاتية الغربية مرجعيات كلاسيكية في التطوّر الذاتي للفرد، والأمثلة في هذا كثيرة وبيّنة، ولم تكن بيئتنا العربية ببعيدة عن هذا المسار في خطّه العام لكنها افتقدت حسّ المساءلة الذاتية الكاشفة والجريئة واقتصرت في أغلبها على التدوينات البروتوكولية والبوح الميلودرامي، أما البعض الآخر فجاء أقرب إلى المدوّنات الوثائقية التي طغى فيها (العام) على (الخاص) حتى استحال قريباً من التواريخ المدرسية .
(أمواج) الدكتور عبد الله إبراهيم:
اشتباك خلّاق بين (الخاص) و (العام)
تعكس قائمة المحتويات طبيعة الكتاب ومزاج الكاتب، وقد راقت لي عناوين ومفردات المحتويات الكاشفة عن جوهر السيرة وجعلتني أردّد مع نفسي العبارة ذاتها التي قالها عالم الرياضيات (يعقوب بيرنوللي) وهو يتفحّص عمل كلّ من (لايبنتز) و (نيوتن) في ميدان التفاضل والتكامل: يُعرَفُ الأسد من مخالبه !!، وشعرتُ بالشيء ذاته عندما قرأت كتاب الدكتور عبد الله (السردية العربية الحديثة) بجزْأيه : ذلك الكتاب المُبدع الذي أعدّه انعطافة خلاقة في السردية العربية نأت بها عن المواضعات المتكلسة وفتحت أمامها آفاقاً حداثية غير مسبوقة.
في هذا الكتاب الممتع نقف أمام مدوّنة سيرية ذاتية تعمّد كاتبها أن يسميها (سيرة عراقية) في إشارة دقيقة إلى أنّ مصائر الأشخاص في بعض البلدان إنما هي مصائر محكومة بأمزجة وسلطات وتصاريف وأقدار فُرضت على الناس فرضاً لايستطيعون له دفعاً أو تعديلاً مهما تعاظمت قدراتهم الشخصية، وهكذا صارت مصائر العراقيين محكومة بمقادير العراق في سياق علاقة جبرية وثقى؛ ويمكن النظر أيضاً لإشتباك (العراق) مع (العراقيين) من وجهة نظر إيجابية نتلمس عبرها كلّ النزعات الخيّرة وخلاصات التأريخ العراقيّ الضارب في أصالته منعكسة في حياة أخيار العراقيين وأفاضلهم في رغبته واندفاعه للارتقاء بأحوال العراق، وقد كان واحداً من هؤلاء الذين أرادوا خيراً لبلده فجاءت سيرته الذاتية حاوية لجوانب من سيرة العراق وبخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.
الموجات الإحدى عشرة: إطلالة سريعة
تتراءى لنا بين ظلال عناوين فصول السيرة رحلة إنسانية وثقافية فريدة بتحولاتها وتموجاتها مدّاً وانحساراً؛ فلكلّ موجة عنوان يختزل لنا مرحلة من تجربة الحياة: الموجة الاولى (بيضة الريح) تتقصى الجذور وتكشف عما كان وعما صار إليه من لم يكن يعرف مايريد، وفي الموجة الثانية (هل كان الأمر خداع بصر ؟) ثمة تنازع من أجل البقاء وأوهام فائضة تطفو على الموجة الثالثة حيث يقاسي المؤلف هول العقوبات العسكرية المشينة في خدمة الضبّاط الإحتياط، ثم يتقبلها على مضض لامتحان رجولة جرى إذلالها، وفي الموجة الرابعة يحيل العنوان (كالقدر نغلي لكننا لانطفح) إلى فوران الرغبات واعادة اكتشاف الذات تحت تأثير المتغيرات المتلاحقة، وتتوالى الموجات (نبي الخيول) و(تيس بغداد) و(هل من أمر يستحق أن نموت من أجله؟) ، ثم موجة (خارطة الليل) والموجة التاسعة بعنوانها المفارق (حمار البراري وعاهرة سومر) لتعقبها موجة (نزل البرابرة) وتختم السيرة بموجة (عصر الغُشَماء) وهو فصل خلاصات مكثفة للفرد والبلاد .
سيرة ذاتية مكتوبة بذائقة روائية
في هذه السيرة نكهة روائية ممتعة ؛ فهو كاتب قصة قصيرة وسارد قدير، وله مجموعة قصصية منشورة وأخرى لم تنشر، وأراه قادراً على الإبحار في محيط الرواية بعد أن خبر بحر السرديات الهائج ، ولست أشاطره الرأي في عدم رغبته بالكتابة الروائية بسبب يبوسة يفترضها في كتابته وهي بعض مستلزمات العقلنة والصرامة التي تتطلبها الكتابة التحليلية وهي تنقاد - بالضرورة - للمقيّدات الأكاديمية المتطلبة.
تنطوي السيرة الذاتية المميزة عادة على خصيصة متفردة، وهي الاشتباك العضويّ بين (الخاص) و (العام) في سياق يجعل من السيرة الذاتية مدوّنة مركبة الاشتغالات: سايكولوجية وتأريخية ومجتمعية، وأرى أنّ هذه السيرة قد امتلكت هذه الخصيصة وتفرّدت في سرد جوانبها المركّبة .
سايكولوجيا الجماعة الصغيرة
تبدأ السيرة بمكاشفات سايكولوجية لبعض جوانب حياة الجماعات الصغيرة التي تعيش بعيداً عن الحواضر المدينية الكبيرة: طفل صغير ينشأ وسط عائلة محكومة بتقاليد حياة الفِلاحة، والأب الذي يعزف عن إبداء أية نوازع رقيقة تجاه زوجته وأولاده بحكم خشونة الحياة ومتطلباتها المعيشية الضاغطة، ويؤكد الدكتور عبد الله ومنذ الصفحات الأولى للسيرة، أنه ربما توارث شيئاً من هذا الجمود العاطفي تجاه عائلته عن أبيه على الرغم من المزايا الإيثارية التي إختصّ بها الدكتور عبد الله عائلة أبيه (بحكم كونه الإبن البكر لها) ثم عائلته الشخصية لاحقاً، ويسهب الدكتور في عرض الكثير من ملامح السوسيولوجيا الحاكمة للعلاقات في هذه الجماعات الصغيرة والتي تتخذ فيها الأمّ منزلة مركزية ضابطة لإيقاع معيشة العائلة، ويروي الدكتورعبدالله المأساة المرضية التي حلّت بوالدته وتطوّرت لتستحيل سرطاناً فموياً قاتلاً، وقد عرّكت هذه المأساة الفتى فأصبح مسؤولاً عن أمه العليلة فيصحبها إلى الأطباء في كركوك ثمّ الى المستشفى الجمهوري ببغداد.
يعترف الدكتور عبد الله، ومنذ وقت مبكّر، بالتأثير الذي لعبته الأنثى الصغيرة (المرأة لاحقاً) في حياته، وقد ركّز كثيراً على هذا الجانب عندما أشار غير مرّة إلى ثلاثية (القراءة - الكتابة - المرأة) باعتبارها الترياق الشافي للجدب الروحي الذي كان يحيق به في بعض أطوار حياته، ونلمح في كتابة الدكتور عن المرأة نوعاً من الصوفية الإيروتيكية التي تسعى لتوظيف اندفاعات جسدية محسوبة في بلوغ مرتقيات الطهرانية الروحية الكفيلة بغسل أدران الحياة عن الروح ومدّها بالعزيمة للمضيّ في تحقيق الأهداف المرسومة بجرأة وثبات .
طالب القانون الذي صار مثابة في الدراسات السردية
غريبة ومدهشة هي تصاريف الأقدار حقاً تلك التي نقرأ عنها في سيرة الدكتور عبد الله !! فبعد أن كان متفوقاً طيلة سنوات دراسته قبل الجامعية نراه يتخرّج من الدراسة الثانوية عام 1977 وينأى بنفسه عن الدراسة في كلية التربية بجامعة الموصل (الجامعة الوحيدة الأقرب إلى كركوك حينها) لأسباب سياسية، ويفضّل دراسة القانون بجامعة بغداد البعيدة، ثمّ تتطوّر الأمور فيجد نفسه على متن طائرة أخذته إلى مصر لدراسة القانون في جامعة (عين شمس) على نفقته الخاصة، ثم يترك الدراسة هناك ويعود للعراق ويضطرّ اضطراراً للدراسة في قسم اللغة الإنكليزية بكلية التربية في جامعة الموصل !! ثمّ ينقل مع بضع عشرات آخرين من زملائه لجامعة البصرة، ثمّ ينتقل من دراسة الإنكليزية إلى العربية وسط سلسلة من الوقائع التي لاتخلو من غرائبية فريدة .
الحقّ أنّ هذه السيرة الذاتية تمدّنا بدليل ساطع - بين دلائل كثيرة مماثلة - على خطل السياسة التعليمية في بلداننا ، والعشوائية وعدم تقدير الكفاءات ، وشيوع حالة البيروقراطية المؤسساتية الي تجعل من الجامعات محض دوائر وظيفية لاتختلف في شيء عن دوائر الدولة، وسوف نشهد حالة مماثلة لهذا الجمود الجامعي لاحقاً عندما يشرح الدكتور عبد الله الظروف التي أحاطت بكتابته لرسالة الدكتوراه في حقل (السرديات العربية) عندما إنبرى الكثيرون من القيّمين على اللغة العربية لكسر همّته عندما طالبوه بجعل عنوانها (السرد العربي) بدل (السردية العربية)، ثمّ مطالبته لاحقاً بحذف فصل كامل منها بذريعة متهافتة، في محاولة منهم للرجوع إلى المنهجيات القديمة في تناول التراث السردي العربي، ويسهب الدكتور عبد الله في هذه التفاصيل وأمثالها والتي أراها كاشفة عن الحال البائس الذي يسود مؤسساتنا الجامعية .
أثر النقطة الانفرادية
ثمة في العلوم المعاصرة مفهوم شاع مؤخراً وبات معلماً مميزاً لها - ذاك هو النقطة الإنفرادية Singularity Point ، وتعني في معناها العام مستوى تكون فيه خواص المستويات السابقة له مختلفة نوعياً وعلى نحوٍ صارخ عن المستويات اللاحقة، وأرى أن هذا التوصيف العلميّ يصدق بأجلى مظاهره على الدكتور عبد الله؛ إذ نراه يصنع نقطته الانفرادية عندما بلغ السنة الثانية من دراسته الجامعية حينما يعتزم أن يكون أستاذاً جامعياً، فأخذ نفسه بالعزم والشدّة وراح يختطّ لنفسه طريقاً متفرّداً ووضع لنفسه منهاجاً صارماً من القراءات الحديثة، واندفع يطلب المصادر الحديثة من مكتبة الجامعة المركزية وكذلك من مكتبة المعهد الثقافي البريطاني ، وحصل - لحسن حظّه وبشائر سعده - أن جولاته القرائية العزوم تلك جادت له ببعض النساء اللواتي قطّرن العذوبة والنشوة في حياته ودفعنه لمواصلة سعيه الجاد في إطار مثلثه الأقنومي المشتهى (القراءة - الكتابة - المرأة) .
من السايكولوجيا الفردية إلى السايكولوجيا الجمعية
تأخذ السيرة الذاتية ابتداءً من الموجة الثالثة (ضمن موجاتها الإحدى عشرة ) بالانعطاف من السايكولوجيا الفردية نحو ترسّم معالم سايكولوجيا الجماعة الكبيرة، وليس هذا بغريب إذا ماعلمنا أنّ هذا الفصل يحكي عن تجربة الدكتور عبد الله في الحياة العسكرية عندما صار ضابطاً مجنداً في الجيش إبان الحرب العراقية - الإيرانية، والحرب - كما هو معروف - تجربة شديدة القسوة أينما كانت وبصرف النظر عن طبيعة المجتمعات ومدى تجذّر التقاليد الليبرالية فيها ، وهنا لنا أن نتصوّر كم ستكون قاسية في بيئة محكومة بنظام حديدي شمولي صارم، وقد جاءت الحرب لتفاقم هذه القسوة التي يبدع الدكتور عبد الله في رسم ملامحها على حياة المجنّدين الاحتياط في الجيش العراقيّ .
كان في عداد الصدف الجميلة أن يقضي الدكتور عبد الله خدمته كضابط مجنّد في كلية القوة الجوية والدفاع الجوي بعيداً عن الخطوط الأمامية للجبهة؛ لكن مع هذا تطلّب الأمر أن يمضي بعض الوقت في الجبهات الأمامية طبقاً لنظام المعايشة، ونقرأ في ثنايا السيرة الكثير من المواقف الصعبة والشاقة عن ظروف الحرب ومكابداتها المدمّرة للروح، حيث تترك متطلبات الانصياع للأوامر العسكرية لبعض أكثر الناس تأزماً جروحها العميقة في الروح البشرية التي تميل للوداعة والمسالمة .
لايخفي الدكتور عبد الله تأثير تلك التجربة في حياته، والكيفية التي جعلته يتشبّث بأداء الواجبات بأدقّ تفاصيلها تجنباً لأي احتكاك غير مرغوب فيه؛ غير أنّ ذلك التأثير طبع حياته لسنوات عديدة لاحقة وتطلّب الكثير من الجهد والمشقة لإعادة ضبط إيقاع الحياة مع متطلبات الهدف المرسوم لحياته وبدفعٍ من شهوة الحياة التي جادت بها القراءة والنساء.