(لا تفكر لها مدبر) عبارة أيقونية يرددها الاتكاليون حتى أصبحت سمة لمجتمعاتنا العربية المستسلمة لأقدارها، والتي ترى في اشتغال الفكر اعتراضاً على القدر المكتوب، وانتهاكاً لفضيلة الصبر وقبول ما تجيء به الأقدار .
كل فعل ورد فعل في حياتنا الراهنة يجري بطريقة التلقي الروبوتي الذي يتبعه الأداء الروبوتي الأكثر إذعاناً وانصياعاً، فقد تحول انسان العصر إلى روبوت أليف جداً، ومطيع جداً، وجاهز لقبول الأوامر وتنفيذها بطواعية من غير اعتراض يذكر ، لم يعد يعترض على الأوامر، أو يسأم من الاذعان، كل شيء صار منوطاً بفكرة الراحة في تعطيل العقل وايقاف ملكة التفكير العظيمة، وهذا ماجعل الانسانية تتلبث طويلاً في حالتها الطفولية ولاتبلغ حالة النضج الفكري والقدرة على اتخاذ القرار ذاتياً.
وقد اختصرالفيلسوف (ايمانويل كانت) هذا الواقع بعبارته التالية: (عدم النضج هو فشلك باستخدام ذكائك الشخصي من غير توجيه الآخرين).
يبدو أن نظام عالمنا يقوم على عنصرين أساسيين لا ثالث لهما: إصدار الأوامر وتنفيذها، هناك القلة المتربعة على رأس الهرم تمتلك حق إصدار الأوامر وهناك الملايين التي لاتملك سوى أن تنفذ وتطيع فلا قدرة لها على تشغيل منظومتها الفكرية التي عطلتها منظومة إصدار الأوامر المترافقة مع الوعيد المبطن..
شخّص (ايمانويل كانت) هذه الحالة الانسانية الباعثة على اليأس بأمثولته الآتية : (إني أسمع صوتاً ينادي: لا تفكر ..رجل الدين يقول: لا تفكر بل آمِن، رجل الاقتصاد يقول: لا تفكر بل ادفع، رجل السياسة يقول : لا تفكر بل نفذ ... لكني أقول لك : فكّر وفكّر وقف على قدميك).
الكل من حولنا يدعونا إلى نبذ العقل وكسب راحة البال بإرجاء التفكير، فرجل الدين يصرخ بحشود الرعية المتشككين الخائفين المرتبكين : لا تفكروا بل آمنوا وسيغمركم الايمان بسعادة الدنيا ويضمن لكم فردوس الآخرة، لاتغركم الأفكار التي تسرق إيمانكم وأمانكم فلا تفكروا، فقد نذرت نفسي لخدمتكم، ويهتف رجل الاقتصاد محرك السوق والمنظومة الاستهلاكية عبر الاعلانات المثيرة: لا تفكر طويلاً، فهذه السلعة وجدت لتحقيق راحتكم واقتناؤها يمنحك السعادة والمتعة، فلا تفكر بل ادفع واشترِ الرضا والمتعة.
إني لأرى رجل السياسة يهتف بنبرة حماسة زائفة وهو يخطب وراء المنصات وتحت الأضواء: الكلمة الأخيرة للشعب فنحن لا دور لنا سوى خدمتكم والسهر على توفير الخدمات والأمان لكم، عليكم أن تبادروا وتفعلوا مافيه الخير لترتقي بلادكم، وتعلمون أننا اليوم نمر بظروف استثنائية طارئة تتعلق بأمننا الوطني وتتعرض بلادنا العريقة لتهديدات خطيرة، وعلينا أن ننفذ ماتمليه علينا مصلحة البلاد فلا تترددوا وحاربوا العدو ما استطعتم من أجل مستقبل أبنائكم، المستقبل ينادينا ولابد من تضحيات ليسلم الوطن، لاتترددوا ولاتفكروا، فنحن جميعاً في خدمة الوطن..
يضطرب الجمع، يرفع أحدهم يده احتجاجاً عندما رفض عقله النشط الإذعان المطلق، يعترض ثانٍ هنا وآخر هناك يرفعون رؤوسهم المنحنية ويتطلعون الى السماء، تسري الفكرة في الجموع، كثرة من الناس تهابها وتتجنبها، تخشى المواجهة وخساراتها المحتملة فتتقبل الانصياع: هناك من يجنبهم مشقة التفكير بدلاً منهم ، ويمضون الى البيت حيث الأمان وينامون مطمئنين في إذعانهم المريح حالمين بفردوس أرضي يهبط عليهم كالقدر الموعود من السماء.
لا تفكر...
[post-views]
نشر في: 7 أكتوبر, 2017: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ناظر لطيف
جميل جدا ، لكن النموذج الموصوف في المقال لرجل الدين والاقتصادي والسياسي هو النموذج السيىء. وهذا النموذج لايمكن قبوله الا حين يتخلف المجتمع وبضمنهم النماذج او حين يتحلف المجتمع وتنتهز النماذج الفرصة الثمينة لهذا الحدث.