لقد قُضيَ الأمر وانتهى الاستفتاء في كردستان العراق إلى ما انتهى إليه من تفويضٍ، قد يثير حفيظة البعض، أو الكثير، من العراقيين العرب والتركمان وربما غيرهم ممن لا يتشاركون جميعاً بأسباب الغيظ وردّ الفعل السلبي. غالبية العراقيين، من دون استثناء كردٍ ليسوا على تقاطعٍ مع خيار الاستفتاء، ظلّوا مشدودين إلى شراكةٍ في هويةٍ عراقيةٍ تجمعهم ولو إلى حين، مراهنين على يقظةٍ وطنية تجتمع على إرادة واحدة حول خيار الدولة المدنية الديمقراطية، الدولة المبنية على المواطنة والعدالة الاجتماعية والحريات والقانون...
دولة تُزيح ما هو قائم من تردٍّ وانحطاطٍ وتفسُّخٍ تغذّت على الطائفية ومحاصصتها والولاء المذهبي، وهو ما أوصل البلاد إلى ما صارت عليه من تفكّكٍ وتشرذمٍ وتشظّ، تعيث فيه تخريباً رموز الفساد وأيتام النظام السابق، وحثالة المجتمع، لكنّ خيار العراقيين في الشراكة والهوية الجامعة لم يكن قابلاً للتحقّق في بيئة فاسدة ، مترهّلةٍ ، تتجاذبها مصالح وإراداتٍ شديدة التناقض.
كان آباء الانحطاط ورموز الفساد وحولهم جوقة المطبّلين وكُتّاب " القطعة" والبوستات الذين يعرضون سرّاً وعلانيةً ولاءهم على من يدفع أو يحمي، يعيدون شحن " البيئة الفاسدة" بكلّ ما يُفرِّق، وما يُعيد إنتاج الأزمات التي من شأنها مراكمة أسباب الفُرقة وتصادم الإرادات والمصالح ، وتشطير المجتمع وتمزيق نسيجه الوطني. وما شهدته الولاية الثانية للسيد المالكي، من " الدم بالدم ، وأنا وليّ الدم "، و "وجيش الحسين يقابل جيش يزيد " علاماتٌ فارقة ونماذج لا تُنسى على النزعة الانقسامية الإقصائية المُستفِزَّة للمكونات التي يتشكل منها المجتمع العراقي، وتتأطر بها "الوحدة الوطنية العراقية".
ولم يكن لهذه الممارسات أن تجد منافذ آمنة، لولا الطابور الخامس الذي اتَّكَأت عليه الأيدي الخفيّة من خارج الحدود، لصبّ الزيت على النار، تارة بدعوى حماية هذا المكوّن وتارة آخرى بتشويه مفاهيم الحكم التي أُرسِيت عليها الدولة "غير مكتملة التكوين"، والدفع باتجاه الأكثرية البرلمانية والنظام الرئاسي، "مكَبّاً " لما تبقّى من أسس الشراكة والتوافق الوطني، وإيهام المُغرَّر بهم، بأنهما السبيل " لتقويم" العملية السياسية وإعادة الاعتبار لمفهوم الديمقراطية، والمدخل لإنهاء الطائفية ومحاصصتها البغيضة!
تفاوتتِ الأدوار، حسب التمثيل، والحجوم ومستوى الوعي واليقظة إزاء ما انطوت عليه تلك الطروحات السياسية المختلّة المتناقضة من حيث الجوهر والدلالات مع ما كان يلازمها من ادعاءاتٍ بـ " الإصلاح السياسي" المنشود .
وقد لعبت الدبلوماسيّة الكردستانيّة بوجه عام دوراً " انعزاليّاً "، سرعان ما انقلب على أصحابها الذين أعطوا الأولوية في مهامهم للتركيز على كلّ ما له علاقة بالإقليم من تشريعات ومواقع ومصالح مالية ومحاصصاتها، من دون الانتباه ولو بالحدود الدنيا لترابط أولوياتهم تلك مع استكمال بُنى الدولة الديمقراطية، دولة القانون والحريات وحقوق الإنسان، مع التشديد على طابعها المدني وقاعدتها المبنيّة على المواطنة الحرّة، المؤسساتيّة .
وكانت الغفلة في هذا النزوع السلبي ليس عند الكرد فحسب، بل وسط المكون السني إيضاً، والتي انعكست في الإستدراج الى الإنشغال بالصراع حول " المظاهر الجانبية " للعملية السياسية ، ونسيان جوهر القضايا العقدية في العملية الجارية لرسم ملامح " العراق الديمقراطي الإتحادي" ، عراق المواطنة، وما يتطلبه من تشريعٍات ونهجٍ وسياسات، وما يستلزمه من حوامل لتصفية أسس المنظومة الطائفية المحاصصية وأدواتها في سائر الميادين والمفاصل المقررة في الدولة، وتجلياتها السلبية في البيئة الإجتماعية التي تُستنفَر فيها الضغائن والأحقاد والكراهيةٍ ورفض الآخر .
إن نحو عقدٍ ونصف العقد من التحول الذي كان من المفترض أن ينقل العراق المتلفع بعباءة الإستبداد والإنكار، في التاسع من نيسان ٢٠٠٣ الى واقع جديد يتشكل منه نموذج الدولة الوطنية الديمقراطية الإتحادية، طاف في مستنقع الاحتراب الطائفي وأُستُنزِف في القتال ضد قطعان الارهاب التكفيري، وصار الإحتكام لمنطق القوة وهيبة السلاح، ثقافة تنفذ الى عمق المجتمع المأزوم بالبحث عن الاستقرار والكرامة المعدومة ولقمة العيش والحدود الدنيا من الخدمات وسبل العيش الكريم، وهي ثقافة تستنفر جوانبها الظلامية تلك القوى والزعامات التي كانت في أساس ما صارت اليه البلاد من تدهور وإنحطاطٍ، وما تعرض اليه المجتمع وطبقاته الفقيرة من حالٍ تتنافى مع ما ينبغي أن تكون عليه الحياة الانسانية الكريمة.
ومن هذه الزاوية ينبغي على الوطنيين العراقيين على اختلاف مشاربهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، التصدي لدعوات إستنفار مكامن القوة، ورفض النزوع لإعتماد منطق الحوار، لمعالجة كل ما يواجه العراق اليوم من تحدياتٍ ومخاطر ونبذ كل ما يؤجج المشاعر البغيضة الغرائزية.
إن الدعوة لعراقٍ موحد تتعارض كلياً مع كل ما تشكل من نهجٍ وسياساتٍ أودت بثلث اراضينا، وفرطت بثرواتنا، نهباً وتبديداً، وضحّت بالالاف من خيرة أبنائنا، وأيقظت مفاهيم الثأر والاستقواء بالهويات الفرعية الاكثر تخلفاً .
وفِي إطار الحوار ، تبقى الثوابت والمبادئ الوطنية حقاً وباباً مشرعة للحفاظ على الحقوق بكل تجلياتها ..
جميع التعليقات 1
حكمة اقبال
كلام حكيم حقاً ، عسى ان تثمر جهود العقلاء عن حوار وطني جاد يلجم افواه الكراهية والحرب