TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نهاية البطل على يد الانتحاريين

نهاية البطل على يد الانتحاريين

نشر في: 10 أكتوبر, 2017: 09:01 م

خلال الأعوام الأكثر حماقة في التاريخ الأوروبي، بين العام 1920 والعام 1940، شاعت عبادة البطل. في ذلك الوقت، جرت العادة أن يُقسم العالم إلى معسكرين: معسكر البورجوازيين الذين كانت تُلصق بهم كل الصفات السيئة (الجشع، الأنانية والجبن!)، ومعسكر الثوريين، الذين كانت تُمنح لهم كل الصفات الجيدة (الطهارة، الكرم، البطولة والأصالة). لكن تظل مفارقة المفارقات هي أن "فلاحي" البطل الثوري، الذين كانوا يروجون لهم، ويسيرون في المظاهرات هاتفين باسمه، كان أغلبهم بورجوازي الأصل. في تلك السنوات أنشدت حناجر الفاشيين الإيطاليين، والنازيين الألمان والفالانغا الإسبانيين (وكل الحركات الأخرى التي جاءت من الطبقة الوسطى)، موت الأبطال كقدر مثالي للرجل المتفوق. في تلك المرحلة لم تكن هناك نساء متفوقات، لكن العديد منهن كن ينتهين مثل نعجات في سرير "دانونزيو"، بطل موسيليني المثالي، دون أن يعرفن أن اسمه الحقيقية كان "غابرييلا راسباغنيته".
من الجانب الآخر للخندق، كانت البورجوازية السوفيتية تُنشد شعراً ذكورياً يُمجد البطل الأممي. وبالتوازي مع الشيوعية الروسية، نشأت أسطورة أبطال، كانوا يعيبون على السوفييت عدم حماسهم الثوري، وأنهم هم الأكثر أممية وثورية. هكذا سارت قافلة الأبطال في قرننا الماضي، وكان آخر محتضريها "الأبطال"، ماوتسي تونغ، بول بوت، وتيتو توصلوا، اكثر من غيرهم، في ضخ الدم إلى أبناء الطبقة البورجوازية، الذين يعانون من سقم الحياة اليومية، العاطلين عن فعل أي شيء، لكنهم سعداء بأن هناك آخرين يذبحون أنفسهم قرباناً في سبيل القضايا "العظيمة"، أو في سبيل "المبادئ"، على نظرية إبن العوجة وأحفاده الذين نزعوا الزيتوني ولبسوا ما شاء من أزياء دينية تدّعي الطهرانية من بعده!
على أية حال، مهما بدت صورة البطل هذه، قاتمة، فإنها احتفظت ببعض الرتوش "الأدبية" أو "الحلمية" التي تقدمها بصورة مختلفة وتزودها بقليل من الضوء، على عكس صورة الأبطال الجدد، التي طلت علينا في السنوات الأخيرة، وراحت تقتحم حياتنا اليومية، وتطاردنا حيثما نذهب. أنها صورة مختلفة تماماً، تلك التي جاءت مع دخول آخر شرذمة إلى مشهد البطولة؛ شرذمة الانتحاريين الإسلاميين، الذين هم في الحقيقة نتاج مشوه ووحشي لتقليد أوروبي خالص مثلما هو تقليد شرقي خالص أيضاً. أنهم بالفعل (وإن لم يعلموا) يتحركون في المكان الذي لا يفسح مجالاً لـ "صراع الحضارات" أو "صراع الثقافات"، في المكان الذي "يوحد الحضارات"، فللمرة الأولى يلتقي في سلوك هؤلاء الأشخاص، كل ما هو دموي ووحشي ومجرم، أنتجته الحضارات بكل اختلافاتها في تاريخها. الانتحاريون هم خلاصة كل هذا البروتسيس المضاد للحرية ولّليبرالية الذي جرّ نفسه على مر العصور.
أبطال أواخر سنوات القرن الماضي، الذين افتتحوا القرن الجديد بالانتحار، يثيرون الرثاء، إن لم يثيروا الاشمئزاز، وهم في الحقيقة غير مؤمنين مهما ادعوا من إيمان. أنهم يصلون ويصومون ويّدعون العفة، ويبشرون بحب الله، رغم أنهم يقتلون عشرات الأطفال يومياً باسم الله. انهم يحتقرون كل الطبقات، البورجوازية والبروليتارية، أحزمتهم الناسفة لا تميز بين الحاكم أو طباخه، بين المرأة والرجل، بين الشيخ والعجوز، بين الطفل والحيوان. أنهم يقتلون حتى الأشجار. إنهم بالمحصلة النهائية ضد الحياة، وبالنسبة لهم، الشخص الوحيد المؤهل لإنقاذ العالم، هو شيخ أمي، ذكوري، بارانويكي، والذي رغم تحركه الصعب، قادر على ضخ الحقد والعدوان في دمائهم، لأن كلماته السريعة "النارية"، هي دستورهم في الحياة، والموت الذي يبشر به يومياً هو وطنهم الدائم.
الانتحاريون الاسلاميون يحرروننا في النهاية من الشكوك التي يمكن أن تكون ما تزال باقية عندنا من قراءاتنا القديمة لدوستويفسكي وأندريه مالرو وسارتر، لكي نميز بين بطل "روائي" حالم بعض الشيء وبين ضعيف عقل ومجرم يتوسل البطولة رغماً عن أنف الجميع بالقوة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram